للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ترجف بهم فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [غافر: ٦٤].

﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾؛ أي: جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة شقها في خلالها وصرَّفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك، وسيَّرها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض وسيَّر لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بهم ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾؛ أي: جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزًا؛ أي: مانعًا يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد هذا بهذا، وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس، والمقصود منها أن تكون عذبة زلالًا يسقى الحيوان والنبات والثمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب، والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣)[الفرقان: ٥٣]، ولهذا قال تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾؟ أي: فعل هذا، أو يعبد على القول الأول والآخر؟. وكلاهما متلازم صحيح ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: في عبادتهم غيره.

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)﴾.

ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: ٥٣]، وهكذا قال ههنا: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾؛ أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه.

قال الإمام أحمد: أنبأنا عفان: أنبأنا وهيب، أنبأنا خالد الحذاء، عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من بلهجيم قال: قلت: يا رسول الله إلامَ تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضرٌّ فدعوته كشف عنك، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته ردَّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك" قال: قلت: أوصني، قال: "لا تسبنَّ أحدًا ولا تزهدنَّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تُفِرغَ من دلوك في إناء المستقي، واتّزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة" (١).

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، فذكر اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس هو: ابن عبيد، حدثنا عبيدة الهجيمي، عن أبي تميمة الهجيمي، عن جابر بن


(١) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٣٤/ ٢٣٩ ح ٢٠٦٣٦)، وصحح سنده محققوه.