للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه ، والآيات اللاتي في سورة المائدة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ إلى قوله: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [٨٢ - ٨٣] (١).

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)﴾.

يقول تعالى لرسوله : إنك يا محمد ﴿لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)[يوسف].

وهذه الآية أخصُّ من هذا كلِّه، فإنه قال: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)﴾ أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.

وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله ، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبًا شديدًا طبعيًا لا شرعيًا، فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختُطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة.

قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه، وهو المسيب بن حزن المخزومي قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة، فقال رسول الله : "يا عمّ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أَبي أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله : يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله : "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣] وأنزل في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أخرجاه من حديث الزهري، وهكذا رواه مسلم في صحيحه (٢)، والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله فقال: "يا عماه قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة" فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررتُ بها عينك، لا أقولها إلا لأقرّ بها عينك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)﴾، وقال الترمذي: حسن


(١) ذكره ابن هشام (السيرة النبوية ١/ ٣٩٢) وسنده ضعيف لإرساله.
(٢) صحيح البخاري، التفسير، سورة القصص، باب ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] (ح ٤٧٧٢)، وصحيح مسلم، الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (ح ٢٤).