للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كلامًا موفرًا، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)﴾.

وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ كقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: ٤٦] أي: من عمل صالحًا فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.

قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يومًا من الدهر بسيف (١).

ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع برِّه وإحسانه بهم، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو أن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)[النساء] وقال ههنا: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧)﴾.

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)﴾.

يقول تعالى آمرًا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)[الإسراء] ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم، قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ أي: وإن حرصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك وإياهما، فلا تطعهما في ذلك، فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة، فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب؛ أي: حبًا دينيًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)﴾.

وقال الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات، فذكر قصته وقال: قالت أُم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق أبي بشير الحلبي عن الحسن البصري.