للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولنتكلم عن كلمات هذه الآيات الكريمة، فقوله تعالى: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم أبناء عمِّ بني إسرائيل، ويقال لهم بنو الأصفر، وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة، ويقال لها المتحيرة، ويصلون إلى القطب الشمالي، وهم الذين أسسوا دمشق، وبنوا معبدها، وفيه محاريب إلى جهة الشمال، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له قيصر، فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين ابن [قسطس] (١) وأمه مريم الهيلانية الشدقانية من أرض حرَّان، كانت قد تنصرت قبله، فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفًا فتابعها، يقال: تَقية (٢)، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافًا منتشرًا متشتتًا لا ينضبط، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا، فوضعوا لقسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل، وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيروا دين المسيح ، وزادوا فيه ونقصوا منه، فصلوا إلى المشرق، واعتاضوا عن السبت بالأحد، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير، واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين (٣)، وجعلوا له الباب، وهو كبيرهم، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساقسة، ثم الشمامسة، وابتدعوا الرهبانية، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية.

يقال: إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب، وبنت أُمه القمامة، وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك.

ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف، ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله : "إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة" (٤) والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل، وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غورًا، وأقصاهم رأيًا، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والريّ وجميع بلاد العجم، وهو سابور ذو الأكتاف، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وله رياسة العجم، وحماقة الفرس، وكانوا مجوسًا يعبدون النار.

فتقدم عن عكرمة أنه: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده، فقهره وكسره وقصره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية، فحاصره بها مدة طويلة، حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تعظمه تعظيمًا زائدًا، ولم يقدر كسرى على فتح البلد، ولا


(١) كذا في (ح) و (حم)، وفي الأصل: "قيطس".
(٢) أي: حذرًا.
(٣) الشعانين: عيد النصارى يقع يوم الأحد السابق لعيد الفصح، يحتفل فيه بذكرى دخول المسيح بيت المقدس.
(٤) أخرجه أبو داود من حديث عوف بن مالك . (السنن، السنة، باب شرح السنة ح ٤٥٩٦)، وقال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود ح ٣٨٤٢).