للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر، ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك، فلما طال الأمر، دبر قيصر مكيدة، ورأى في نفسه خديعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء، فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالًا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة، فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره، وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية فجمع أهل ملَّته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول، فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها، فأنتم بالخيار: إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري، فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيًا، ولو غبت عشرة أعوام، فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة (١) في جيش متوسط هذا، وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مسرعًا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلًا لرجالها ومن بها من المقاتلة أولًا فأولًا، ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى، فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه وحريمه، وحلق رأس ولده وركبه على حماره، وبعث معه من الأساورة (٢) من قومه في غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه، فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، واشتد حنقه على البلد، فاشتد في حصارها بكل ممكن، فلم يقدر على ذلك، فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون (٣) التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علم قيصر بذلك، احتال بحيلة عظيمة، لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة، وركب في بعض الجيش، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث، فحملت معه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدًا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر، فلما مرت بكسرى ظن وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض، فخاضوا وأسرعوا السير، ففاتوا كسرى وجنوده، ودخلوا القسطنطينية، فكان ذلك يومًا مشهودًا عند النصارى، وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون، لم يحصلوا على بلاد قيصر، وبلادهم قد خربتها الروم، وأخذوا حواصلهم، وسبوا ذراريهم، ونساءهم، فكان هذا من غلب الروم لفارس، وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم، وكانت الوقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز (٤).

وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة، وهي أقرب بلاد الروم من فارس، فالله أعلم.


(١) الجريدة: خيل لا رجالة فيها.
(٢) أي: الفرسان.
(٣) أي: نهر جيحون.
(٤) قول ابن عباس أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وقول عكرمة أخرجه الطبري بسند فيه الحسين وهو ابن داود وهو ضعيف.