للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جُبير أو عكرمة، عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله : "كلاكما" قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال رسول الله : "إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم" وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ الآية (١)، وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن يسار (٢)، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، لا مكية، والمشهور أنها مكية، والله أعلم.

وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: عزيز قد عزّ كل شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه.

وقوله تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي: ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هين عليه، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)[يس]، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)[القمر] أي: لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)[النازعات].

وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي: كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)﴾.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)﴾.

يخبر تعالى أنه: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ يعني: يأخذ منه في النهار فيطول ذاك، ويقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف، يطول النهار إلى الغاية، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار، وهذا يكون في الشتاء ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قيل: إلى غاية محدوده، وقيل: إلى يوم القيامة، وكلا المعنيين صحيح، ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذرّ الذي في الصحيحين أن رسول الله قال: "يا أبا ذرّ أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت" (٣).


(١) في سنده محمد بن أبي محمد لم يعرف، وأخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق عن رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير به. ويتقوى بمرسل عكرمة التالي.
(٢) قول عكرمة أخرجه البستي بسند صحيح من طريق داود بن أبي هند عنه، وقول عطاء بن يسار أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق، عن بعض أصحابه عن عطاء.
(٣) تقدم تخريجه في تفسير سورة الأنعام آية ١٥٨.