للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات؛ واحتج بقوله (تعالى) (١): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)[البقرة].

والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم؛ وهذا لا ينفى أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه، وطبع على قلوبهم. ولم يستحضر ابن جرير () (١) هذه الآية ها هنا، وهي قوله تعالى: (﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٣] فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان؛ أي: في الدنيا؛ ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة. قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [الأحزاب: ١٩] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: ٢٨] [وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: ٥].

وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم (كقصة) (٢) (الذي استوقد) (٣) نارًا.

وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون: "الذي" ها هنا بمعنى "الذين"، كما قال الشاعر (٤):

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم … هم القوم كل القوم يا أم خالد] (٥)

قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)﴾ وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام.

وقوله (تعالى) (٦): ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي: (أذهب) (٧) عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان.

﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ لا يهتدون إلى (سبيل) (٨) خير، ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ﴿صُمٌّ﴾ لا يسمعون خيرًا، ﴿بُكْمٌ﴾ لا يتكلمون بما ينفعهم، (﴿عُمْيٌ﴾) في ضلالة وعماية البصيرة؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ [الحج: ٤٦] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.


(١) من (ز) و (ن).
(٢) في (ك): "كمثل".
(٣) في (ن): "الذين استوقدوا".
(٤) قال الشيخ محمود شاكر حفظه الله في تعليقه على "تفسير الطبري" (١/ ٣٢٠): "هذا الشعر للأشهب بن رميلة وعزا ذلك لـ"الخزانة" (٢/ ٥٠٧، ٥٠٨)؛ و"البيان" (٤/ ٥٥)؛ و"كتاب سِيْبَويَه" (١/ ٩٦)؛ و"المؤتلف والمختلف" (٣٣) للآمدي، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض في كتابه "مختار أشعار القبائل". وروايته "إن اللألى" ولا شاهد فيه، وهم يقولون: إن النون حذفت من "الذين" فصارت "الذي لطول الكلام وللتخفيف، وهي بمعنى الجمع لا المفرد، و"فلج" وادٍ بين البصرة وحمى ضرية، كانت فيه هذه الواقعة التي ذكرها". اهـ.
(٥) ساقط من (ز).
(٦) من (ز) و (ن).
(٧) في (ك) و (ن): "ذهب"؛ وفي (ن): "ذهب عنهم بما".
(٨) في (ز): "سبل".