للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ثم قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (١). انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي، قال: وتابعه محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه به (٢).

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة، عن هشام؛ يعني: ابن عروة، عن أبيه، عن عمرو بن العاص أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول الله ؟ قال مرَّ بهم ذات يوم فقالوا له: أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال: "أنا ذاك"، فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيت أبا بكر محتضنه من ورائه وهو يصيح بأعلى صوته وإن عينيه لتسيلان وهو يقول: يا قوم ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ حتى فرغ من الآية كلَّها (٣). وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة فجعله من مسند عمرو بن العاص (٤).

وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: كيف تقتلون رجلًا لكونه يقول ربي الله وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ يعني: إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه، فإن يك كاذبًا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يكن صادقًا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة فمن الجائز عندكم أن يكون صادقًا فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه. وهكذا أخبر الله عن موسى أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)[الدخان]، وهكذا قال رسول الله لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله ولا يمسوه بسوء ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: ٢٣] أي: أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية وكان فتحًا مبينًا، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبًا كما تزعمون لكان أمره بينًا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديدًا ومنهجه مستقيمًا، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله،

ثم قال المؤمن: محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله


(١) أخرجه البخاري بسنده ومتنه (الصحيح، التفسير، سورة المؤمن ح ٤٨١٥).
(٢) صحيح البخاري، مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي وأصحابه من المشركين بمكة (ح ٣٨٥٦).
(٣) سنده صحيح.
(٤) السنن الكبرى، التفسير (ح ١١٤٦٢).