للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ أي: بينًا وظاهرًا والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.

وقوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ هذا من خصائصه التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله ، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله وأشدهم تعظيمًا لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئًا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" (١) فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم

﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)﴾ أي: في الدنيا والآخرة ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (٢).

وعن عمر بن الخطاب أنه قال: ما عاقبت أحدًا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧)﴾.

يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ﴾ أي: جعل الطمأنينة، قاله ابن عباس وعنه: الرحمة (٣).

وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة، يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرَّت زادهم إيمانًا مع إيمانهم، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين فقال: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ولو أرسل عليهم ملكًا واحدًا لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة والبراهين الدامغة، ولهذا قال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.


(١) أخرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولًا (الصحيح، الشروط، باب الشروط في الجهاد ح ٢٧٣١، ٢٧٣٢).
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة الإسراء آية ٢٩.
(٣) أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس.