للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في حياته ؛ لأن محترم حيًا وفي قبره دائمًا، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ كما قال: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣].

وقوله: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده، خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالًا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض".

ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحثَّ على ذلك، وأرشد إليه، ورغب فيه فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ أي: أخلصها لها وجعلها أهلًا ومحلًا ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: كُتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (١).

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.

ثم إنه ذمَّ الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي: لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.

ثم قال داعيًا لهم إلى التوبة والإنابة: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقد ذُكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي (٢) فيما أورده غير واحد.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس، أنه نادى رسول الله من وراء الحجرات فقال: يا محمد يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله، فلم يجبه فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال : "ذاك الله ﷿" (٣).


(١) سنده منقطع لأن مجاهدًا لم يدرك عمر .
(٢) واسمه فراس والأقرع لقب (ينظر: الإصابة ١/ ١٠٣).
(٣) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٣/ ٤٨٨) وسنده ضعيف لأن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع الأقرع. (ينظر: تعجيل المنفعة وفتح الباري ٨/ ٥٨٢).