للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولا حكاه هو عن أحد وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى؛ أي: هذا الشديد القوي ذو المِرّة هو ومحمد بالأفق الأعلى؛ أي: استويا جميعًا بالأفق الأعلى وذلك ليلة الإسراء، كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال وهو كقوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا﴾ [النمل: ٦٧] فعطف بالآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك قوله فاستوى وهو، قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:

ألم تر النبع يصلب عوده … ولا يستوي والخروع المتقصف (١)

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها، ورسول الله في الأرض، فهبط عليه جبريل وتدلى إليه فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعدما جاءه جبريل أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي فيها مرارًا ليتردى من رؤوس الجبال. فكلما همَّ بذلك ناداه جبريل من الهواء، يا محمد أنت رسول الله حقًّا وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه (٢)، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ورسول الله بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح (٣) قد سد عظم [خلقه] (٤) الأفق، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله ﷿ ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه.

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلِّب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلي جبريل كأنه جلس لاطئ فعرفت فضل علمه بالله علي. وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت، وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي" ثم قال البزار: "لا يرويه إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلًا مشهورًا من أهل البصرة" (٥).

قلت: الحارث بن عبيد هذا هو أبو قدامة الأيادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه، وقال: ليس هو بشيء، وقال الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم


(١) معاني القرآن ٣/ ٩٥، واستشهد به الطبري.
(٢) أخرجه البخاري (الصحيح، التعبير، باب أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ح ٦٩٨٢).
(٣) سيأتي تخريجه بعد الرواية التالية.
(٤) كذا في (ح) و (حم)، وفي الأصل صحف إلى: حلقه.
(٥) أخرجه البزار بسنده ومتنه وتعليقه (مختصر زوائد مسند البزار ١/ ٩٤، ٩٥ ح ٣٤) وقال ابن حجر في الحارث بن عبيد: أخرج له الشيخان وهو مع ذاك له مناكير هذا منها. ولهذا قرر الحافظ تضعيف سند هذا الحديث.