للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

منكم أكثر من خوفهم من الله ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧] ولهذا قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾

ثم قال تعالى: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ يعني: أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.

ثم قال تعالى: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي: عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال تعالى: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٦٥] ولهذا قال تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ أي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف.

قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾

ثم قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥)﴾.

قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر (١).

وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع (٢)، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق، وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله قد أجلاهم قبل هذا.

وقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ يعني: مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان - والعياذ بالله - الكفر، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها، فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت عليًا يقول إن راهبًا تعبَّد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة فقال لإخوتها: عليكم بهذا القسِّ فيداويها، قال: فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة، فسجد له، فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦)(٣).


(١) أخرجه آدم بن أبي إياس والطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٢) أخرجه الطبري بسند فيه عنعنة ابن إسحاق، وفيه ابن حميد وهو محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف.
(٣) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وأخرجه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق به، وسنده صحيح، وأخرجه الحاكم من طريق عبد الرزاق به وفيه ورد اسم حميد بن عبد الله بدلًا من عبد الله بن نهيك وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (المستدرك ٢/ ٤٨٤، ٤٨٥).