وقوله تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا﴾ أي: أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله ﷺ ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلَّا بل مأواهم جهنم.
ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلًا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها، وهم معترفون بها، فقال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي: من المني الضعيف، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠)﴾ [المرسلات] وقال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (١٠)﴾ [الطارق].
ثم قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ أي: الذي خلق السموات والأرض وجعل مشرقًا ومغربًا وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام: ليس الأمر كما تزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة، ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام وهو الردُّ على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السموات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات، ولهذا قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)﴾ [غافر] وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾ [الأحقاف] وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ [يس] وقال ههنا: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠)﴾
﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ أي: يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي: بعاجزين كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)﴾ [القيامة] وقال تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)﴾ [الواقعة] واختار ابن جرير ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ أي: أُمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأخرى عليه، والله أعلم.
ثم قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ أي: يا محمد ﴿يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ أي: دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم ﴿حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ أي: فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله
﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)﴾ أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الربُّ ﵎ لموقف الحساب ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون (١).
(١) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي عن ابن عباس، ويتقوى بالآثار التالية: فقد أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند صحيح من طريق معمر عن قتادة؛ وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.