ويجزن ناصيته. فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف، وبجراب فيها من تراب اليمن، وجزَّ ناصيته فأرسلها معه، ويقول في كتابه: ليطأ الملك على هذا الجراب، فيبرّ قسمه، وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك. فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه، ورضي عنه، وأقره على عمله. وأرسل أبرهة يقول للنجاشي: إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يُبْنَ قبلها مثلها. فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء، رفيعة البناء، عالية الفناء، مزخرفة الأرجاء؛ سمتها العرب: القُلَّيس؛ لارتفاعها؛ لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها. وعزم أبرهة الأشرمُ على أن يصرف حَجّ العرب إليها كما يُحَج إلى الكعبة بمكة، ونادى بذلك في مملكته، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك، وغضبت قريش لذلك غضبًا شديدًا، حتى قصدها بعضهم، وتوصل إلى أن دخلها ليلًا. فأحدث فيها وكرّ راجعًا. فلما رأى السدنة ذلك الحدث، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة، وقالوا له: إنما صنع هذا بعض قريش غضبًا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به، فأقسم أبرهة ليسيرنَّ إلى بيت مكة، وليخربنَّه حَجرًا حَجرًا.
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارًا، وكان يومًا فيه هواء شديد فأحرقته، وسقطت إلى الأرض.
فتأهَّب أبرهة لذلك، وصار في جيش كثيف عَرَمرم؛ لئلا يصده أحد عنه، واستصحب معه فيلًا عظيمًا كبير الجثة لم ير مثله، يقال له: محمود، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك. ويقال: كان معه أيضًا ثمانية أفيال. وقيل: اثنا عشر فيلًا. وقيل غيره، والله أعلم. يعني ليهدم به الكعبة، بأن يجعل السلاسل في الأركان، وتوضع في عُنُق الفيل، ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة. فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدًّا، ورأوا أن حقًّا عليهم المحاجبة دون البيت، وَرَد من أراده بكيد. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له:"ذو نَفْر" فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله، وما يريده من هدمه وخرابه. فأجابوه وقاتلوا أبرهة، فهزمهم لما يريده الله ﷿، من كرامة البيت وتعظيمه، وأسر "ذو نُفْر" فاستصحبه معه. ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم، فعَرَض له نُفَيل بن حَبيب الخَثْعمي في قومه: شهران وناهس، فقاتلوه، فهزمهم أبرهة، وأسر نُفَيل بن حبيب، فأراد قتله ثم عفا عنه، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز. فلما اقترب من أرض الطائف، خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم، الذي عندهم، الذي يسمونه اللَّات.
فأكرمهم وبعثوا معه "أبا رغَال" دليلًا. فلما انتهى أبرهة إلى المُغَمّس -وهو قريب من مكة- نزل به وأغار جيشه على سَرْح أهل مكة من الإبل وغيرها، فأخذوه. وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب. وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة، وكان يقال له:"الأسود بن مَفْصود" فهجاه بعض العرب -فيما ذكره ابن إسحاق (١) - وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش، وأن يخبره أن الملك لم يجيء لقتالكم إلا أن تَصدُّوه عن البيت. فجاء حناطة فَدُل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال، فقال له عبد المطلب: