للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فوالله ما عندنا دَفْع عنه. فقال له حناطة: فاذهب معي إليه. فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجله، وكان عبد المطلب رجلًا جميلًا حسن المنظر، ونزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على البساط، وقال لترجمانه: قل له: حاجَتك؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يردَّ عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زَهِدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني! قال: أنت وذاك.

ويقال: إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت، فأبى عليهم، وردَّ أبرهة على عبد المطلب إبله، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة، والتحصن في رؤوس الجبال، تخوفًا عليهم من مَعرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لاهُمَّ إنَّ المرء يمـ … ـنَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك

لا يغلبنَّ صَلِيبُهم … ومحَالُهم غدوًا مِحَالك (١)

قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب، ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال (٢).

وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مُقَلَّدة، لعلَّ بعض الجيش ينال منها شيئًا بغير حق، فينتقم الله منه.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله -وكان اسمه محمودًا- وعبأ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال: "أبرك محمود، أو ارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام". ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يَشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى. فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مَرَاقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى: فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبَلَسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعَدسَ، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق هذا. ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة، وجعل نفيل يقول:


(١) أخرجه الحاكم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس بنحوه؛ وصححه الحاكم ووافقه الذهبى. (المستدرك ٢/ ٥٣٥).
(٢) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام ١/ ٥٢، وذكره الطبري أيضًا.