للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)﴾ أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم، كما قال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: ٢٣] فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بدّ له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛ ولهذا كان كلمة الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؛ أي: لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول : ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)[يونس]، وقال: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [القصص: ٥٥].

وقال البخاري: يقال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الكفر ﴿وَلِيَ دِينِ﴾ الإسلام. ولم يقل: "ديني" لأن الآيات بالنون، فحذف الياء، كما قال: ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] و ﴿يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] وقال غيره (١): لا أعبد ما تعبدون الآن، ولا أجيبكم فيما بقي من عمرى، ولا أنتم عابدون ما أعبد، وهم الذين قال: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤].

انتهى ما ذكره (٢).

ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد، كقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)[الشرح] وكقوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)[التكاثر] وحكاه بعضهم -كابن الجوزي، وغيره- عن ابن قتيبة، فالله أعلم. فهذه ثلاثة أقوال: أولها: ما ذكرناه أولًا. الثاني: ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)﴾ في الماضي ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)﴾ في المستقبل. الثالث: أن ذلك تأكيد محض.

وثم قول رابع، نصره أبو العباس ابن تَيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)﴾ نفي الفعل لأنها جملة فعلية ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤)﴾ نفي قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الإسمية آكد فكأنه نفي الفعل، وكونه قابلًا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضًا. وهو قول حسن أيضًا، والله أعلم.

وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه اليهود من النصارى، وبالعكس؛ إذا كان بينهم نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان -ما عدا الإسلام- كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله : "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (٣).

آخر تفسير سورة ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾، ولله الحمد والمنّة.


(١) السابق ذكره البخاري من كلام الفراء واللاحق من كلام أبي عبيدة (ينظر فتح الباري ٨/ ٧٣٣).
(٢) ذكره البخاري. (الصحيح، التفسير، باب ١٠٩ سورة الكافرون).
(٣) تقدم تخريجه في تفسير سورة الأنفال آية ٧٣.