للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر، أجمعين، مِنْ أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه، يعني نصلي ونستغفره - معنى مليح صحيح، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون: هي صلاة الضحى. وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرًا لم يَنْو الإقامة بمكة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويُفطر هو وجميع الجيش، وكانوا نحوًا من عشرة آلاف. قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح، قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات. وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة. والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين، كما ورد في سنن أبي داود: أن رسول الله كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين (١). وأما ما فسر به ابن عباس وعمر ، من أن هذه السورة نُعِي فيها إلى رسول الله نفسه الكريمة، واعلم أنك إذا فتحت مكة -وهي قريتك التي أخرجتك- ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (٣)﴾.

قال النسائي: أخبرنا عمرو بن منصور، حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا أبو عوانة، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١)﴾ إلى آخر السورة، قال: نُعيت لرسول الله نفسُه حين أنزلت، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وقال رسول الله بعد ذلك: "جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن". فقال رجل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لَيِّنة قلوبهم، الإيمان يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفقه يمان" (٢).

وقال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جَرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن (٣).

وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي، من حديث منصور، به (٤).

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله يكثر في آخر أمره من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه". وقال: "إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أُمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره، إنه كان توابًا، فقد رأيتها: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ


(١) أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة . (السنن، الصلاة، باب صلاة الضحى ح ١٢٩٠)؛ وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (ح ٢٨١).
(٢) أخرجه النسائي بسنده ومتنه (السنن الكبرى، التفسير، سورة النصر ح ١١٦٤٨) وفي سنده هلال بن خباب تغير بآخرة.
(٣) أخرجه البخاري بسنده ومتنه. (الصحيح، التفسير، باب ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١)﴾ [النصر: ١] ح ٤٩٦٨).
(٤) صحيح مسلم، الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (ح ٤٨٤/ ٢١٧).