للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

(يرشد تعالى) (١) بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر، وهو المتصرف؛ فكما (يخلقهم) (٢) كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقى من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء - كذلك يحكم في عباده بما يشاء؛ فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء؛ وهو الذي يحكم ما يريد؛ لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛ ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ؛ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى؛ فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا.

وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم، لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ؛ إما عقلًا كما زعمه بعضهم جهلًا وكفرًا؛ وإما نقلًا كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا.

قال الإمام أبو جعفر (٣) بن جرير : فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، (وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء) (٤)، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.

ثم قال (٥): وهذا الخبر وإن كان خطابًا من الله تعالى لنبيه على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام (لمجيئهما) (٦) بما جاءا به من عند اللّه بتغيير ما غيَّر الله من حكم التوراة؛ فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.

قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد؛ فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء؛ كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحًا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. [وأمر إبراهيم بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل] (٧) [من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل] (٨)، وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه.

وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا تصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود،


(١) في (ن): "يرشد عباده تعالى".
(٢) في (ن): "خلقهم".
(٣) في "تفسيره" (٢/ ٤٨٨).
(٤) ساقط من (ج).
(٥) يعني: ابن جرير.
(٦) في (ج) و (ل): "بمجيئهما".
(٧) من (ج) و (ل).
(٨) من (ج) و (ل).