للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها، إن شاء الله، وبه الثقة.

وقوله تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أي: من الخوف، لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا؛ (كقوله تعالى) (١): ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] (وقوله) (٢) ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي "صحيح مسلم" (٣)، عن جابر: سمعت رسول الله يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح". وقال في هذه السورة: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنَّهُ قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] وناسب هذا هناك لأنَّهُ - واللّه أعلم - كأن وقع دعاء (مرةً ثانية) بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)[إبراهيم: ٣٩].

وقوله تعالى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

قال أبو جعفر الرازي (٤)، عن الرب بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ قال: هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد (٥) وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير، رحمه الله تعالى: قال: وقرأ آخرون: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر (٦)، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلًا.

وقال ابن أبي جعفر (٧)، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ يقول: ومن كفر فارزقه أيضًا ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

وقال محمد بن إسحاق (٨): لما عزل إبراهيم ، الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية


(١) كذا في (ج) و (ز) و (ض) و (ن) و (ى)؛ وفي (ل): "كما قال الله تعالى"؛ وفي (ك): "لقوله تعالى".
(٢) من (ن) و (ى).
(٣) في "كتاب الحج" (١٣٥٦/ ٤٤٩).
(٤) أخرجه ابن جرير (٢٠٣٣)؛ وابن أبي حاتم (١٢٣٣) وسنده حسن.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (١٢٣٥) من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عكرمة فذكر مثله. قال ابن أبي نجيح: سمعت هذا من عكرمة ثم عرضته على مجاهد فلم ينكره. [وسنده صحيح].
(٦) أخرجه ابن جرير (٢٠٣٥)؛ وابن أبي حاتم (١٢٣٤). [وسنده جيد].
(٧) أخرجه ابن جرير (٢٠٣٥) قال: حَدَّثَنَا المثنى، ثنا إسحاق، ثنا ابن أبي جعفر فذكره. وسنده ضعيف لجهالة شيخ ابن جرير، ولضعف ليث بن أبي سليم. ولكن أخرجه ابن أبي حاتم (١٢٣٦) من طريق ابن أبي زائدة أنا إسرائيل عن خصيف عن سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد فذكره، وهذا سند صالح يعتبر به وخصيف بن عبد الرحمن مختلف فيه.
(٨) أخرجه ابن جرير (٢٠٣٤) قال: حَدَّثَنَا ابن حميد، ثنا سلمة، قال ابن إسحاق فذكره. وسنده ضعيف جدًّا =