للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي صحته أيضًا نظر، والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمرو بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر، وإنها لإحدى الكُبَر إذا اختار مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل: إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر. وقيل: بل هي صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة. وقيل صلاة الخوف. وقيل: بل صلاة عيد الفطر. وقيل: بل صلاة الأضحى، وقيل: الوتر. وقيل: الضحى. وتوقف (١) فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة، ولم يظهر لهم وجه الترجيح، ولم يقع الإجماع على قول واحد، بل لم يزل النزاع (٢) فيها موجودًا من زمان الصحابة وإلى الآن.

قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن المثنى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه (٣).

وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها، وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر، وقد ثبت السنة بأنها العصر فتعيَّن المصير إليها. وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي - رحمهما الله - في كتاب الشافعي ، حدثنا أبي سمعت حرملة بن يحيى التجيي يقول: قال الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي بخلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى ولا تقلدوني، وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي، وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود عن الشافعي: إذا صحَّ الحديث وقلت قولًا، فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك، فهذا من سيادته وأمانته، وهذا نفس إخوانه من الأئمة ورضي الله عنهم أجمعين - آمين، ومن هاهنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب الإمام الشافعي أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، وإن كان قد نصَّ في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر، وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب، ولله الحمد والمنة.

ومن الفقهاء في المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهب الشافعي، وصمموا على أنها الصبح قولًا واحدًا، قال الماوردي: ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة، ولله الحمد الحمد والمنة.

وقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما امتنع النبي من الرد على ابن مسعود حين سلّم عليه وهو في الصلاة، اعتذر إليه بذلك وقال: "إن في الصلاة لشغلًا" (٤). وفي صحيح مسلم أنه قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله" (٥).


= صدوق له أوهام ورمي بالتشيع (التقريب ص ٥٧٢).
(١) في الأصل: "ويتوقف".
(٢) في الأصل: "التنازع".
(٣) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وسنده صحيح.
(٤) متفق عليه أخرجه البخاري، الصحيح، العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة (ح ١١٩٩)، وصحيح مسلم، المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (ح ٥٣٨).
(٥) صحيح مسلم، الموضع السابق (ح ٥٣٧).