للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال البخاري: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو). وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال، ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول.

وقال أنس بن مالك: حَضرتُ مناهضة حصن تُستَر (١) عند قضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففُتح لنا.

قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها (٢). هذا لفظ البخاري، ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره صلاة العصر يوم الخندق بعذر المحاربة إلى غيبوبة الشمس، وبقوله بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة: "لا يصلينَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا: لم يُرِد منا رسول الله إلا تعجيل السير، ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة، فلم يعنف واحدًا من الفريقين (٣)، وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول، والجمهور على خلافه، ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء، ووردت بها الأحاديث، لم تكن مشروعة في غزوة الخندق، وإنما شرعت بعد ذلك، وقد جاء مصرحًا بهذا في حديث أبي سعيد وغيره، وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك، لأن هذا حال نادر خاص، فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تُستَر وقد اشتهر ولم ينكر، والله أعلم.

وقوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها، ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي: مثل ما أنعم عليكم وهداكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد صلاة الخوف: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ الآية [النساء: ١٠٢].

﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)﴾.

قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، وهي قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ


(١) بضم التاء وسكون السين وفتح التاء، بلد من بلاد الأهواز في إيران (ينظر: فتح الباري ٢/ ٤٣٥).
(٢) قال الحافظ ابن حجر: وأما قول مكحول فقال عبد بن حميد في تفسيره: أنا عمر بن سعيد الدمشقي، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول .. وأما قصة أنس فقال ابن أبي شيبة وابن سعد في الطبقات: حدثنا عثمان بن مسلم، ثنا همام بن يحيى عن قتادة عن أنس (تغليق التعليق ٢/ ٣٧٢) وسنده صحيح.
(٣) صحيح البخاري، كتاب الخوف، باب الصلاة عند مناهضة العدو (ح ٩٤٦).