للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال اللهُ تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} ولم يَقُلْ: لأبصارِهِم؛ لأنَّ شَهادَةَ الجُلودِ أَعْظَمُ وأعَمُّ، {وَقَالُوا} أي: أَعداءَ اللهِ، {لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} وهذا الاسْتِفهامُ اسْتِفهامُ إِنكارٍ، كأنَّهم يَقولونَ: نَحنُ نُجادِلُ عنكم فكيفَ تَشهدونَ عَلينا.

{قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} يَعني أنْ شَهِدْنا؛ لأنَّ اللهَ أَنطَقَنا واللهُ عَزَّ وَجَلَّ بيدِه مَلكوتُ السَّمَواتِ والأَرْضِ يُنْطِقُ كُلَّ شيءٍ.

يَقولُ المُفسِّرُ رَحِمَهُ اللهُ: [أي: أراد نُطقَهُ] ولا حاجَةَ إلى هذا القَيدِ؛ لأنَّ اللهَ تَعالَى لا يَكرهُه أحدٌ حتَّى نَقولَ إِنَّ هذا الفِعْلَ مُقَيَّدٌ بالإرادَةِ، ونَقولُ: أَنْطقَ كُلَّ شيءٍ ولا نَقولُ أراد نُطْقَه لأنَّه لا يُمكِنُ أن يَنطِقَ الشَّيءُ إلَّا بعدَ إرادَةِ اللهِ، ومثل هذا القَيْدِ غَيرُ مُناسبٍ؛ لأنَّنا لو اعتَبَرناه لقلنا: كُلُّ فِعلٍ ذَكَرَه اللهُ عن نَفْسِه يَجِبُ أن نُقيِّدَه بالإرادَةِ، وهذا أَمْرٌ مُستَكرَهٌ إذ إنَّنا نَعلَمُ أنَّ كلَّ فِعلٍ فَعَلَه اللهُ فإنَّما هو عن إرادةٍ، كما قال تَعالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢].

فاللهُ تعالى أَنْطَقَ كلَّ شيءٍ، أنطَقَ الحَجَرَ والشَّجَرَ، وسُمِعَ تَسبيحُ الحَصا والطَّعامِ بين يَدَيِ النَّبيِّ (١) - صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم-، بل قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: ٤٤] كُلُّ شيءٍ يُسبِّحُ اللهَ بلِسانِ المَقالِ إلَّا الكافِرَ فإنَّه لا يُسَبِّحُ اللهَ بلسانِ المَقالِ؛ لأنَّه كافِرٌ يَصِفُ اللهَ تعالى بكُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، وكُلُّ شيءٍ يُسَبِّحُ اللهَ بلِسانِ الحالِ حتَّى الكافِرُ يُسبِّحُ اللهَ بلسانِ الحالِ، بما أودَعَ اللهُ فيه مِنَ الآياتِ في الخِلقَةِ والخَلْقِ وما أَشبَهَ


(١) أخرجه البزار في مسنده رقم (٤٠٤٠)، والطبراني في الأوسط رقم (١٢٤٤)، والبيهقي في دلائل النبوة (٦/ ٦٤)، من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>