وقولُهُ:{خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يَحتَمِلُ أنَّه مِن كَلامِ اللهِ يُخاطِبُ به هَؤلاءِ المكذِّبينَ والأعداءَ، ويَحتَمِلُ أنَّه تَتِمَّةُ كَلامِ الجلودِ، يعني أنَّ الجلودَ تَستدِلُّ على قُدرةِ الله تعالَى على إنطاقِها بأنَّه خَلَقَهم أَوَّل مَرَّة.
يَقولُ المُفسِّرُ رَحَمِهُ اللهُ في بيان ذلك:[قيل: هو مِن كَلامِ الجُلودِ، وقيل: هو مِن كَلامِ اللهِ]، وإذا قال المُؤَلِّفونَ: قيل كذا وقيل كذا، فالخِلافُ هنا مُطلَقٌ لا تَقديمَ فيه ولا تَأخيرَ، وإذا قيل: هو مِن كَلامِ الجُلودِ، وقيل: مِن كَلامِ الله هنا يَكونُ قَدَّمَ الأَوَّلَ، أمَّا إذا قال المُؤَلِّفون: قيل وقيل، فهذا لَيسَ فيه تَقديمٌ، بل هو نَقْلُ خِلافٍ على وَجهِ الإطْلاقِ.
وعلى هذا فالقَولانِ لَدى المفسِّر مُتساويانِ؛ وأَن نَجعلَه من كَلامِ الجُلودِ حتَّى يَتَّصِلَ الكَلامُ بَعضُه ببَعضٍ: أَقْرَبُ من حيثُ اللَّفظِ، أَقْربُ أنَّ الجُلودَ تَقولُ:{أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، وتَقولُ لِهؤلاءِ: هو الَّذي خَلَقَكم أَوَّل مَرَّةٍ وإليه تُرجَعونَ.
لكنَّ القَولَ الثَّاني أَقوَمُ للمَعْنى، يَعني: أنَّ اللهَ لمَّا بَيَّنَ أنَّ هؤلاءِ يُعادونَ يومَ القيامَةِ ويُحاسَبونَ وتَشهَدُ عليهمُ السَّمعُ والأبَصارُ والجُلودُ بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ أنَّه قادرٌ على الإعادَةِ؛ لأنَّ هؤلاءِ الَّذينَ كَذَّبوا يُنكِرونَ البَعْثَ فقال:{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، والقادِرُ على الخَلْقِ أَوَّلَ مَرَّةٍ قادرٌ على إِعادتِهِ، دَليلُ ذلك قولُه تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم: ٢٧] فهو يَقولُ: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، والقادِرُ على ذلك قادِرٌ على الإِعادَةِ.
وقولُهُ:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا فيه أيضًا إِشارَةٌ إلى الحِكْمةِ مِن خَلْقِ الخَلْقِ أنَّهم يُبتَلونَ فيُؤمَرونَ ويُنْهَونَ، ومَآلُهُم إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُجازيهم بِحَسَبِ أعمالهِم الَّتي كَلَّفهم بها.