للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكذلك الإِساءَةُ بالعَفوِ، إذا أَساءَ إليكَ إِنسانٌ فاعفُ عنه، وقد سَبَقَ مِرارًا ونُكرِّرُه تِكرارًا: أنَّ العَفوَ إنَّما يَندُبُ إليه إذا كان فيه إِصلاحٌ؛ لقَولِه تَعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠].

فإِنْ قال قائلٌ: الَّذي لا يَقدِرُ على رَدِّ السَّيِّئةِ بمِثلِها هل يَدخُلُ في قَولِه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؟

فالجَوابُ: لا، هذا ضَعفٌ وجُبنٌ، الَّذي لا يَقدِرُ على الِانتِصارِ لنَفْسِه هذا لا يُحمَدُ، بل يُقالُ: هذا ضَعيفٌ، ولأنَّه لا يُحمَدُ إلَّا العَفوُ عندَ المَقدِرَةِ، والصَّفحُ عندَ المَقدِرَةِ. أمَّا إنسانٌ عاجِزٌ فيَجيءُ شَخصٌ ضعيفٌ يَضرِبُه يَضرِبُه يَضرِبُه وهو يَقولُ: جَزاكَ اللهُ خَيرًا، عَفا اللهُ عنك، فهذا لا يُحمَدُ؛ لأنَّه عاجِزٌ.

قال اللهُ تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فُصِّلَت: ٣٤] فإذا فُجائيَّةٌ والفاءُ عاقبَةٌ؛ أي: فإذا دَفعتَ بالَّتي هي أَحسَنُ فاجَأتك هذه الحالُ، وهي أن تَنْقَلِبَ عَداوةُ الشَّخصِ الَّذي أَساءَ إليك، فيَصيرُ كأنَّه وَليٌّ حَميمٌ، يعني: صَديقًا قَريبًا.

وتَأَمَّلْ كَونَ الجَوابِ بـ"إذا" الفُجائيَّةِ لِيتَبَيَّنَ لك أنَّ انقِلابَ عَداوتِهِ إلى وِلايَةٍ حَميمَةٍ لا يَتأخَّرُ كَثيرًا؛ لأنَّ إذا الفُجائيَّةَ تَدُلُّ على الفَورِيَّةِ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} لو كان المُخبِرُ بذلك غَيرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لكان الإنسانُ يَتردَّدُ، وكيف يَنقلِبُ العَدوُّ صَديقًا حَميمًا بهذه السُّرعَةِ، نَقولُ: إنَّ الَّذي أخبَرَ بذلك هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: ١٢٢].

ثُمَّ إنَّ الَّذي أخبَرَ بذلك هو الَّذي قُلوبُ بَني آدمَ بين أُصبُعينِ من أَصابعِهِ

<<  <   >  >>