للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سواءٍ، وأمَّا من جِهةِ الواقعِ فلا شكَّ أنَّ مَن كان في السَّمواتِ أَقربَ إلى اللهِ مِمَّن كان في الأرضِ، ولهذا قال: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}.

أَقولُ: إنَّ بَعضَ العُلماءِ استَدَلَّ بهذه الآيَةِ على عُلوِّ اللهِ، وقال: نحنُ في الأرضِ والَّذين عِندَ اللهِ لا بَّد أن يَكونوا في السَّماءِ؛ لأنَّه لولا عُلوُّه لكُنَّا نحن أيضًا عِندَه، فكَونُه يَقولُ: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يُخاطِبُ مَن في الأرضِ يَدُلُّ على عُلوِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وهذا لا شكَّ أنَّه استنِباطٌ جَيِّدٌ، لكنَّنا لسنا بحاجَةٍ إلى أن نَأتيَ بهذا الدَّليلِ الَّذي قد تَخفى دَلالتُه على كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ.

وعِندَنا أدِلَّةٌ كَثيرةٌ واضحَةٌ على عُلوِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أدِلَّةٌ عَقليَّةٌ وأدِلَّةٌ سمعيَّةٌ وأدِلَّةٌ فِطريَّةٌ على عُلوِّ اللهِ، ولا أَحَدَ يُنكِرُ عُلوَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ العُلوَّ الذَّاتيَّ إلَّا مَخبولٌ غيرُ عاقلٍ، وهو بَيْن أَمرينِ: إمَّا أن يَقولَ بالحُلولِ، وإمَّا أن يَقولَ بالعَدَمِ، وفِعلًا التَزِموا ذلك، فالَّذين أنكَروا عُلوَّ اللهِ انقَسَموا إلى قِسمَينِ:

قِسمٌ قال: إنَّ اللهَ في كُلِّ مَكانٍ، ولم يُنزِّهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَن الحُشوشِ والأقذارِ والأنتانِ والأسواقِ الَّتي بها اللَّغو والكَذِبُ والغِشُّ، وهذا فيما أَرى كُفْرٌ صَريحٌ، أنَّ من قال: إِنَّ اللهَ بذاتِه في كُلِّ مكانٍ، فهو كافِرٌ لو مات ما صَلَّيتُ عليه ولا دَعوتُ له بالرَّحمَةِ؛ لأنَّه مُكذِّبٌ للقُرآنِ وللأدِلَّةِ العَقليَّةِ وواصمٌ لرَبِّه بكُلِّ عيبٍ.

ومنهم مَن يَقولُ: إنَّ اللهَ تَعالى ليس داخلَ العالَمِ ولا خارِجَ العالَمِ ولا مُتَّصِلٌ بالعالَمِ ولا مُباينٌ ولا محُايثٌ ولا فوقُ ولا تَحتُ ولا يَمينَ ولا شِمالَ، بماذا وَصَف اللهَ؟ بالعَدَمِ، لو قيل لنا صِفوا المَعدومَ ما وَصَفناه بأَكثرَ مِن هذا، فيُقالُ: أين هو ما دام لا داخِلُ العالَمِ ولا خارِجُه ولا مُتَّصلٌ بالعالَمِ ولا هو مُنفصِلٌ عنِ العالَمِ، ولا فَوقُ ولا تَحتُ ولا يَمينَ ولا شِمالَ أين يَروحُ إلَّا العَدمَ! ؟

<<  <   >  >>