للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال اللهُ تَعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: ٤٦] وقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: ٢٩]، وقال تَعالى في نَفيِ إرادَةِ الظُّلمِ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: ٣١] وكيف يَتَمَدَّحُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بأمرٍ مُستحيلٍ هذا غَيرُ مُمكِنٍ، لولا أنَّ الظُّلمَ مُمكِن ما كان وَصْفُ اللهِ به كمالًا فهو مُمكِنٌ، مُمكِنٌ أن يُعذِّبَ الإنسانَ الَّذي أمضى لَيلَه ونَهارَه في طاعَةِ اللهِ مُمكِنٌ عقلًا، لكنَّ اللهَ تَعالى لا يُريدُ هذا، لذلك بَطَلَ قَولُهم بأنَّ الظُّلمَ محُالٌ في حقِّ الخالقِ؛ لأنَّه يَتصرَّفُ في مُلكِه.

وعلى كُلِّ حالٍ: في الآيَةِ هذه {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} دَليلٌ على إِثباتِ المَشيئَةِ للعَبدِ وهو يَرُدُّ ردًّا واضحًا على الجَبِرَّيةِ، العَجبُ أنَّه قامَ أُناسٌ ضِدَّ الجَبرَيَّةِ فدَاوَوا البِدعَةَ ببِدعَةٍ، قالوا: الإنسانُ له مَشيئةٌ وإِرادةٌ واختِيارٌ لكنَّه مُنفَصلٌ عن إِرادَةِ اللهِ ومَشيئَتِه مُستَقِلٌّ بالعَمَل ما للهِ إرادةٌ فيه إطلاقًا كيف؟ قال: نعم أنت الآنَ تَذهَبُ وتَجيءُ باختِيارِك لا تَشعُرُ أنَّ أحدًا يُجبِرُك أو يُكرِهُك فإذن لا عَلاقَةَ للهِ بفِعلِك، فأنت تَفعَلُ مخُتارًا مُستقِلًّا عن إرادَةِ الخالِقِ، والأقرَبُ إلى المَعقولِ هم القَدرَيَّةُ؛ لأنَّ كُلَّ إنسانٍ يَعرِفُ أنَّه يَفعَلُ الشَّيءَ باختِيارِه، وأنَّه يُحمَدُ على فِعلِه للخَيرِ، ويُذمُّ على فِعلِه للشَّرِّ، ولو كان بِغيرِ اختِيارٍ ما استحَقَّ أن يُحمَدَ على الخيرِ ولا أن يُذَمَّ على الشَّرِّ، كُلٌّ يَعلمُ ذلك ولهذا يُسمَّونَ العَقلانِيِّينَ؛ لأنَّهم يُحَكِّمون العَقلَ حتَّى في مِثلِ هذا الأمرِ.

إذن؛ نَقولُ: قوبِلَت بِدعَةُ الجَبريَّةِ بِبِدعةِ القَدريَّةِ الَّذين أثَبَتوا للإنسانِ إرادَةً استقلالًا؛ ولهذا يُسمَّونَ مَجوسَ هذه الأُمَّةِ؛ لأنَّ المَجوسَ يَقولون: الحَوادثُ لها خالِقانِ: الظُّلمَةُ والنُّورُ. كُلُّ ما في الدُّنيا مِن شَرٍّ فخالِقُه الظُّلمَةُ وكُلُّ ما فيها مِن خيرٍ فخالِقُه النُّورُ؛ لأنَّ الأشياءَ في الدُّنيا كُلِّها إمَّا خَيرٌ وإمَّا شَرٌّ.

فيَجبُ أن يَكونَ هناك إلهانِ إلهُ الخيرِ وإلهُ الشَّرِّ، والمُناسِبُ للخَيرِ النُّورُ؛ لأنَّ

<<  <   >  >>