وقولُه:{مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} فَسَّرها المفسِّر بتَفسيرٍ غَريبٍ قالَ: [أَيْ لَيس قَبْلَه كتابٌ يُكذِّبه وَلا بَعده]، وفي هَذا نَظرٌ ظاهرٌ، والصَّوابُ أنَّه لا يَأتيه الباطلُ {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: فيما يُخبِرُ به، {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} فيما أَخبرَ عنه، فَكُلُّ ما أَخبرَ به فَهو حقٌّ، وكُلُّ ما أَخبرَ عنه بأنَّه سيكونُ فَهو حقٌّ.
أَيضًا لا يَأتيهِ الباطلُ مِن حَيثُ الأَحكامُ، فَكُلُّ ما حَكَمَ به فَهو حقٌّ وغايتُهُ حقٌّ، فيكونُ المعنَى أنَّ هذا القُرآنَ الكَريمَ ليس فيه شيءٌ مِنَ الكَذِبِ، لا في الإِخبارِ عن ما مَضَى وما هو بَيْن يَدَيه، ولا في الإِخبارِ عمَّا يُستقبَلُ وَهو قَولُه:{وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} وإنْ شِئتَ اعْكِسْ، فقُلْ: ما بَين يَدَيه هو المُستَقبَلُ وما خَلفَه هو الماضي.
كَذلكَ أَيضًا لا يَأتيه الباطلُ مِن حيثُ الأحكامُ، أَحكامُهُ كُلُّها عَدلٌ ما فيها جَوْرٌ؛ ولهذا تَجِدُ القُرآنَ الكَريمَ كَما يُعطي الرَّبَّ حَقَّه مِن العِبادةِ يُعطي المَخلوقَ حَقَّه أَيضًا:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء: ٣٦] هَذا حَقُّ اللهِ، بَعدَه:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[النساء: ٣٦]. فَهو حقٌّ في أحكامِه، حقٌّ في أَخبارِه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ