للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالرِّوايَةُ الثَّانيةُ عنه فَسَّرتِ الرِّوايةَ الأولَى أي: مَن قالَ لَفظي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ يُريدُ القُرآنَ الَّذي هو اللفوظُ به.

فإِن قالَ قائِلٌ: هَل يُمكنُ أَن يُرادَ بِاللَّفظِ المَلفوظُ؟ قُلنا: نَعَم، لِأنَّ لَفظَ مَصدرٌ والمَصدَرُ يَأتي أَحيانًا بمَعنَى اسمِ المَفعولِ كَما في قولِه -صلَّى اللهُ عليه وَعَلى آلِه وسَلَّم-: "مَن عَمِلَ عَملًا ليسَ عَليهِ أَمرُنا فَهو رَدٌّ" (١). رَدٌّ بمَعنَى مَردودٍ. وكَما في قَولِه تَعالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: ٦] أي: أولاتُ مَحمولٌ، فالحَملُ مَصدَرٌ ويُرادُ بِه اسمُ المَفعولِ.

ونَحنُ نَقولُ في كَلامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّه كَلامٌ مَسموعٌ بِحرفٍ وصَوتٍ وأَنَّه غَيرُ مَخلوقٍ وأَنَّه صِفةٌ مِن صِفاتِه.

ولَكِن هل هو مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ أو مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؟ نَقولُ: أَمَّا بِاعتِبارِ أَصلِه وأَنَّه تَعالَى لَم يَزلْ ولا يَزالُ مُتكلِّمًا فهو مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وأَمَّا بِاعتِبارِ آحادِه فَهو مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؛ لِقولِه تَعالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢] صارت {كُن} بَعدَ الإِرادَةِ، وَهذا دَليلٌ علي أنَّ كَلامَ اللهِ من حَيثُ آحادُه وأَفرادُه مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ.

فإِن قالَ قائِلٌ: قَولُ الأشاعِرَةِ هَل يُكَفِّرُهم؟

فالجَوابُ: يَجبُ أَن نَعلَمَ قاعدةً مُهِمَّةً أنَّ المُجتَهدَ مِن هَذهِ الأُمَّةِ ولَو أَخطَأَ فَإنَّه مَغفورٌ لَهُ، هُم يُريدونَ بهذا أنَّ اللهَ مُنزَّهٌ أن تَقومَ بِه الحوادِثُ؛ لِأنَّهم يَعتَقدونَ بِعُقولهِم السَّخيفَةِ أنَّ الحَوادثَ لا تَقومُ إِلَّا بِحادثٍ وهُم يَعلَمونَ أنَّ الكَلامَ حادثٌ،


(١) أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (١٧١٨)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

<<  <   >  >>