للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمَّا الحِكمَةُ فوجْهُها: أنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا كان قادِرًا على أنْ يخْلُقها بلَحظَةٍ واحِدَةٍ: كُن فيكُونُ، لكنَّه جَلَّ وَعَلَا ربَطَ الأسبابَ والمُسبَّباتَ، وجَعلَها تتَفاعَلُ شيئًا فشَيئًا حتَّى تنتَهِي، هَذا مِن وجْهٍ.

ومن وجْهٍ آخرَ: أَنَّه أخَّرَ ذلِك لِيُعَلِّم عِبادَه التَّأنِّي في الأُمُورِ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ خلْقَ الأرْضِ قبْل خلْقِ السَّماءِ؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ خلْقَ الأرْضِ في أربَعةِ أَيَّامٍ قالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وَهَذا كقَوْلِه تَعالى في سُورةِ البَقَرةِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)} [البقرة: ٢٩].

ولكِن هَذا يُعارِضُه ظاهِرُ قولِه تَعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: ٢٧ - ٣٠] فهُنا ذَكَرَ أنَّ الأرْضَ دُحِيت بَعدَ خلْقِ السَّماءِ، فهلِ المُرادُ بالدَّحْوِ شَيءٌ سِوى الخلْقِ، أو أنَّ البَعْديَّةَ هُنا بَعدِيةُ ذِكرٍ؛ يعنِي كما يَقولُون: هَذا تَرتِيبٌ ذِكري، ولَيس ترتِيبًا زمَنِيًّا؛ الجَوابُ: في هَذا وجْهان:

الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الدَّحْو ليْس الخلْقَ، بلْ هُو شَيْءٌ آخَرُ، فسَّرَه اللهُ بِقولِه: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: ٣١] فهَذا الدَّحوُ، وإخْراجُ الماءِ والمَرْعى شَيءٌ زائِدٌ على الخلْقِ والتَكوينِ.

وأمَّا الوجْهُ الثَّاني: فإنَّ البَعدِيةَ هُنا بَعديَّةُ ذِكرٍ، وهُو ما يُعرفُ عِند عُلَماءِ النَّحوِ بالترتيبِ الذِّكريِّ، ومِنه قَولُ الشَّاعِر (١):


(١) البيت لأبي نواس الحسن بن هانئ، يمدح به العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر. انظر: ديوانه ط. آصاف (ص: ١٢٢)، وخزانة الأدب (١١/ ٤٠).

<<  <   >  >>