وقيل لأعرابي: من أبلغ الناس: قال: أقلهم لفظاً، وأحسنهم بديهة.
قال الإمام فخر الدين الرازي في حد البلاغة: إنها بلوغ الرجل بعبارته. كنه ما يقول في قلبه، مع الاحتراز عن الإيجاز المخل والتطويل الممل.
قال فيلسوف: كما أن الآنية تمتحن بأطنانها فيعرف صحيحها ومكسورها فكذلك الإنسان يعرف حاله بمنطقه.
مر رجل على أبي بكر ومعه ثوب فقال له أبو بكر: أتبيعه؟ فقال: لا يرحمك الله، فقال أبو بكر: لو تستقيمون لقومت ألسنتكم، هلا قلت لا ويرحمك الله؟ ! .
قال كاتب الأحرف: إعتراض أبي بكر غير وارد على ذلك الرجل لاحتمال أن يكون قصده من قوله: لا يرحمك الله معنى غير محتاج إلى الواو فتأمل.
وحكي أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن شيء. فقال: لا وأيد الله أيد الأمير فقال المأمون: ما أظرف هذا الواو وما أحسنها في موضعها.
وكان الصاحب يقول هذا الواو أحسن من واوات الأصداغ. قالت الأشاعرة: شكر المنعم ليس بواجب أصلاً، ومثلوها بتمثيل، فقالوا: وما مثله إلا كمثل الفقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقاً وغرباً يعم البلاد وهباً ونهباً فتصدق عليه بقلمة خبز، فطفق يذكره في المجامع، ويشكره عليها بتحريك أنملته دائماً لأجله، فإنه يعد استهزاء بالملك، فكذا هنا، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الله وشكر العبد في قلتها أقل قدراً في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصبعه. وأتت المعتزلة بتمثيل آخر أحسن منه، فقالوا التمثيل المناسب للحال أن يقال: إذا كان في زاوية الخمول وهاوية الذهول رجل أخرس اللسان، مشلول اليدين والرجلين، فاقد السمع والبصر، بل لجميع الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة، فأخرجه الملك من تلك الهاوية، وتلطف عليه بإطلاق لسانه وإزالة شلل أعضائه، ووهب له الحواس لجلب المنافع ودفع المضار ورفع رتبته وكرمه على كثير من أتباعه وخدمه، ثم إن ذلك الرجل بعد وصول تلك النعم الجليلة إليه، وفيضان تلك التكريمات عليه، طوى عن شكر ذلك الملك كشحاً وضرب عنه صفحاً ولم يظهر منه ما ينبىء عن الإشعار بشيء من تلك النعم أصلاً، بل كان حاله قبلها كحاله بعدها من غير فرق بين وجودها وعدمها فلا ريب أنه مذموم بكل لسان ومستحق للإهانة والخذلان.
وحكي أن بعضهم دخل على عدوه من النصارى فقال له: أطال الله بقائك، وأقر عينك، وجعل يومي قبل يومك، والله إنه يسرني ما يسرك، فأحسن إليه وأجازه على دعائه وأمر له بصلة ولم يعرف لحن كلامه، فإنه كان دعا عليه؛ لأن معنى أطال الله بقائك لوقوع المنفعة للمسلمين به لأداء الجزية، وأقر عينك: معناه سكن الله حركتها فإذا سكنت،