للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا فرع علماء الأصول على مسئلة (أنه لا حاكم سوى الله، ولا حكم إلا ما حكم به) فرعوا على ذلك خلافًا للمعتزلة: "أن العقل لايحسن ولايقبح، ولا يوجب شكر المنعم، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع" (١) .

ثم إن الله عزَّ وجلَّ جعل العقول في إدراكها حدًا تنتهى إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري عزَّ وجلَّ في إدراك جميع ما كان، وما يكون، وما لايكون، إذا لو كان كيف يكون.

فمعلومات الله لا تنتاهي، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوى ما لايتناهي، وهذا قول ابن خلدون (٢) : "واعلم أن الشارع أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس، والعقل يقف عاجزًا عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة، ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك، وأعلم أن الوجود منحصر في مداركه لايعدوها (٣) .

ويقول الشاطبي مبطلا زعم من قال: إن مصالح الدنيا تدرك بالعقل في قوله: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع. وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات".

ويقول الشاطبي ردًا: "أما إن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض. ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام ومن أجل


(١) انظر: تفصيل ذلك في المستصفى للغزالي ١/ ٨، والإحكام للآمدى ١/ ٧٦ _ ٩٠، والإبهاج في شرح المنهاج ١/ ٤٣، ١٣٥، وإرشاد الفحول ١/ ٥٦، وأصول الفقه للخضري ص ٢٣، ٢٤.
(٢) ابن خلدون: هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، أبو زيد، الفيلسوف المؤرخ العالم البحاثة، ولي قضاء المالكية بمصر، اشتهر بكتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر" مات سنة ٨٠٨هـ. له ترجمة في: الضوء اللامع ٤/ ١٤٥ رقم ٣٧٨، والأعلام ٣/ ٣٣٠.
(٣) المقدمة الفصل العاشر في علم الكلام ص ٥٠٨، وانظر: الإسلام على مفترق الطرق الأستاذ محمد أسد ص ١٠٠ وما بعدها.

<<  <   >  >>