للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقول الأستاذ أبو غدة _ رحمه الله تعالى _: المراد بمراعاة العقل عند السماع، فحص التلميذ الواعي وانتباهه لحال الشيخ الرواي، الذي يريد أن يتلقى عنه، قبل سماعه منه، فإذا وجه سيئ الحفظ، أو مضطربًا في الحديث أو شديد التدليس عند التحديث، أو يروى الواهيات، أو المنكرات، أو يسوق الموضوعات والخرافات، أو يقلب الأسانيد أو المتون، أو صاحب بدعة تتصل بحديثه، أو لا تتصل: أعرض عن التحمل عنه، والسماع منه. وكانوا يوغلون، ويدققون جدًا في البحث عن الشيخ والكشف عن حاله قبل الأخذ عنه، حتى يقال لهم: أتريدون أن تزوجوه؟ روى الخطيب في الكفاية بسنده إلى: "شاذان الأسود بن عامر _ قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوة؟ " (١) .

وكثير من طلبة الحديث كانوا لايكتبون عن أحد حتى يسألوه عنه أئمة الشأن الذين يعرفون الرواة، ومن يجوز أن يكتب عنه، ومن لا يحل كتب حديثه للاحتجاج أو الاعتبار، فعن أبى العباس بن باذام قال: قال لي والوليد بن مسلم القرشي: وكنت إذا أردت أن آتي الشيخ أسمع منه شيئًا، سألت عنه قبل أن آيته الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، فإذا رأيًا أن أتيه أتيته" (٢) ونحو ذلك كثير منتشر في أخبار الراوة والمحدثين.

وكثيرًا ما كان بعض الطلبة يمتحنون الشيوخ قبل التلقى عنهم، فيقلبون لهم بعض الأسانيد في بعض الأحاديث، ويركبون عليها المتون، ويسألهم عنها على أنها من أحاديثهم وروايتهم، يفعلون هذا عمدًا: امتحانًا للشيخ قبل السماع منه، فإن انتبه عرفوا ضبطه ومتانة حفظه وشدة يقظته ودقة وعيه، وأخذوا عنه، وإن تلقن وأقر: الحديث المقلوب والمغلوط تركوا الرواية عنه.

ومن نماذج مراعاتهم للعقل في قبول الحديث ورده عند السماع.

١_ ما رواه الدارقطنى في سننه عن سفيان بن عيينة قال: دخلت على الحجاج بن أرطاة (٣) ، وسمعت كلامه، فذكر شيئًا أنكرته، فلم أحمل عنه شيئًا.


(١) الكفاية في علم الرواية ص ٩٣.
(٢) تهذيب الكمال للمزي ٣/ ١٤٧٥.
(٣) الحجاج بن أرطاة: هو حجاج بن أرطاة _ بفتح الهمزة _ ابن ثور بن هبيرة النخعي، أبو أرطاة الكوفي،= =القاضي، أحد فقهاء، صدوق، كثير الخطأ، والتدليس. مات سنة ١٤٩هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب ١/ ١٨٨ رقم ١١٢٢، والكاشف ١/ ٣١١ رقم ٩٢٨، وتذكرة الحفاظ ١/ ١٨٦ رقم ١٨١، طبقات الحفاظ للسيوطي ص ٨٧ رقم ١٧٢، والثقات للعجلي ص ١٠٧ رقم ٢٥٠، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد الذهبي ص ٥ رقم ٧٨، وحاشية سبط ابن العجمي على الكاشف ١/ ٣١١.

<<  <   >  >>