قيل: ليس كذلك بل مبطلون، لأن الله- تعالى جده- أخبرنا إنهم يجدون نبينا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن الحسد هو الذي يحملهم على لزوم كفرهم. ونزل الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونحن من هذه الأخبار في ثقة ويقين، فذلك الذي يمنعنا أن دفعنا من جانبهم إلى أمر نكرهه. وسيكفينا الله تعالى ذلك بفضله. ونفيناه إلى أن نرفض ديننا. وأما هم فإن حالهم إذا كانت ما ذكره الله تعالى من إنصاف ذلك لخوف الذلة والصغار، أتاهم قرب ذلك نزوعهم عما هما فيه، فإنهم إنما يتمسكون بدينهم ما داموا يقدرون لأنفسهم في الثبات عليه حظًا من الدنيا. فإذا تفرد عندهم أن لا دنيا ولا آخره لم يثبتوا عليه. فهذا فرق ما بيننا وبينهم. فإن قيل قد ثبتوا ولم يغن استدلالكم إياهم شيئًا: قيل العقل السليم يدعو إلى ما ذكرنا فإن ذهب عنه ذاهب فذاك لا يفسد هذا الأصل. وقد يذنب بعض الناس دينًا فيخلد عليه، ثم يعود فيخلد فيتكرر ذلك منه، وعليه دفعات فلا يرتدع، ولا يدل ذلك على أن عقوبة المجرم بالضرب الشديد ليست في موضع الردع والزجر، بل هي كذلك في حكم العقل، فإن ذهب عنه ذاهب لم يقدح ذلك في الحق والحكمة شيئًا والله أعلم.
وفي أخذ الجزية عنهم معنى آخر وهو أن يكون سر غناهم المكان بين أولياء الله في أرضهم ودارهم إلا ببذل يعود منهم عليهم، لتكون منزلتهم بين الأولياء بأديانهم، منزلة الأجنبي من صاحب المنزل. وفي هذا من الصغار ما لا يخفى. ثم هو في البعث على الر جوع إلى الحق، وترك التمادي في الباطل نظير الوجه الذي تقدم ذكره. وفي جملة ما كتبنا ما أبان أن قبولنا الجزية من أهل الكتاب لا يوهم أن قتالنا إياهم ليس على الدين ولكنه لأجل المال، وخصوصًا إذا كنا نشترط عليهم أن تكون أحكام الإسلام جارية عليهم، ولا يجاهدوا بكفرهم ولا أن يسمعوا المسلمين قولهم في عيسى بن مريم، ولا صوت الناقوس، ولا يفتنوا مسلمًا عن دينه، ولا يسقوا صبيًا من صبيان المسلمين ولا عبدًا من عبيدهم خمرًا يحتسونه بذلك. ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة، ولا يظهروا فيها حمل خمر، ولا ادخار خنزير. ولا يحدثون بنا، يطولون به بناء المسلمين، ويقصروا الزنانير على أوساطهم ويفرقوا بين هيئاتهم وهيئات المسلمين في الملبس والمركب. ولا يركبوا الخيل ويقتصروا على الحمير والبغال، وإن ركبوا البراذين فبالأكف دون السروج.