للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

علم مكنون من خبر السماء والأرض لا يعلمه منه إلا الله، فتكلم غيره بحروف ليس فيها إلا إنها أصوات مقطعة، فيقع له إذا سمعها من العلم مثل ما هو واقع للمتكلم، ولما لم يكن منه للآخر شركة في الجهة التي منها كان له العلم. فكذلك يكون له عنده علم وهو بأقصى المشرق، فيأخذ ورقًا فيصور فيه حروفًا وينفذها إلى أقصى المغرب، فإذا نظر فيها الناظر وقع له العلم الذي عند الكاتب المصور لتلك الحروف. فليس أحد التدبيرين والوضعين أدنى رتبة ولا أقل فائدة، ولا أنفص حكمة من الآخر، ولا المنة به من مدبره ووضعه أقل منها بالآخر. وفي إنعام الله عز وجل على الإنسان منه عز اسمه أخرى، وهو أنه يتيسر له لذكر الله عز وجل دعائه بالأسماء الحسنى، ومدحه بالصفات العلى، وقراءة كتابه المنزل وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعليم كل ذلك غيره. ومثل هذه المنة في الحواس موجودة لأنه يدرك بالجمع وحي الله عز وجل الذي أوحاه إلى أنبيائه. ويدرك بالبصر ملائكته وأنبياءه وآياتهم. ومن فاتته مشاهدتهم، فأصحابهم وأبصارهم وخلفاؤهم، وكل واحدة من هاتين المنتين ففيها زيادة على المنة الواقعة بنفس السمع والبصر، لأن تلك هي منة الإدراك فقط. وهاتان إنما يرجع المعنى فيهما إلى شرف المدرك وجلال قدره، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسمع الوحي أشرف وأجل قدره من الذي لا يسمعه. ونما يقف عليه نبينا مع الشيء إياه. وكان الصحابي إذا أدرك الرسول وصحبه أفضل من التابعي، والتابعي الذي لم يدركه ولم يصحبه. فهذا يدل على إن سماع الوحي، وعيان الرسول فضل. ولا شك في وجوب المنة، بما يقع التوصل إليهما به وبالله التوفيق.

وبما أنعم الله تعالى على الناس في هيئة خلقهم إن جرد أبدانهم عن الشعور، فلان ذوات الشعور، خلقت شعورهم لتكون أثاثًا ومتاعًا، فلما لم يخلق فوق الناس من يمتهن الناس، سائر الحيوان، أشعر الناس بغير شعار الحيوان سواه. ولأن سائر الحيوان إذا لم يكن لها عقول لم تقدر من تدبير أمرها ما يقدر عليه الناس، فجعلت لها الشعور لتقيها الحر الشديد والبرد الشديد، وتحول بين أبدانها وبين لصلابة الأرض وبذلك وقذاها، ولم يخلق الناس الشعور لأن التجرد عنها أنعم لأبدانهم وأمكن لتنظيفها، فإن تأذوا بحر أو برًا قدروا على التخلص منها بالأكباد والملابس. وإن احتاجوا إلى ما يحول بينهم وبين خفاء الأرض وأبدانها وأقذيتها، وجدوا من الفرش والمتاع ما يتوصلون به إلى ذلك،

<<  <  ج: ص:  >  >>