للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه كثير من الأوقات. وما يحتاج إليه لإلانة الحديد وإذابته وإذابة سائر الجواهر التي لا يحتمل ما يصنع منها إلا بلينه مذابه من الذهب والفضة والنحاس وما يشبهها وما يحتاج إليه منه الوقود والاصطلاء به أيام البرد.

ذكر الهواء فوق الأرض، الهواء الذي إن منع نفوس الأحياء اختنقوا، وحاجة الأبدان كحاجتهم إلى الماء وأشد، لأن كل مخنوق يحل خناقه، فأول ما يفزع إليه هو الهواء فإذا تنشقه ورجعت منه إليه نفسه كالماء، وقد لا يحتاج في ذلك الوقت إلى الماء، ولكنه لا يستغني عن الهواء. إن الله تبارك وتعالى وضع الزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغير أحوال الهواء، وهو يولج من بعضها من بعض ما يولج من الليل في النهار، ومن النهار في الليل، لأنه جعل الربيع الذي هو أول الفصول حارًا رطبًا، ورنت فيه النشوء والنمو، فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض وهرتها، ويظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزروع، وتتوالد فيه الحيوانات، وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعته وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى، وهي الرطوبة، لأن الهواء في الصيف حار يابس فتنضج فيه الثمار والحبوب البادية في الربيع، ويدرك من الرطاب والخضراوات. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعته وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحر. لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهي فيه صلاح الثمار وتمكين وتجف، فتصير إلى حال الادخار فتقطف الثمار، وتحصد الأعناب، وتفرع من جميعها الأشجار فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء، وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعته وهي البرد، ومباين له في الأخرى وهي اليبس، لأن الهواء في الشتاء بارد ورطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتمهد الأرض كالبدن المستريح فلا يتحرك إلى أن يعيد الله إليها حرارة الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشوء والنمو بإذن الله تعالى.

وهو نظير إيلاجه الليل في النهار بأن ينقض من ساعات الليل، ويزيد ساعات في النهار. فإذا اعتدلا واستويا نقص من ساعات النهار وزاد في ساعات الليل إلى أن يعتدلا. ولا يزال يولج كل واحد منهما في الآخر ما بقيت الدنيا، إلى أن يأذن الله في زوالها.

ولما كان من وضعه عليه أمر هذا العالم، إنه ربما قصر الليل وأطال النهار، وربما

<<  <  ج: ص:  >  >>