يفعلونه بعد الخروج إلى البر من شكر تلك النعمة، ويقابلونه بها من عاجل النسيان والرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل، من التهافت في الطغيان والتسارع إلى العصيان كأنهم أمنوا وأيقنوا أن لا سبيل بعد ذلك لله تعالى عليهم، فلا وصول- عزت قدرته- إليهم.
فقال {أمنتم} يعرفهم أنهم لا أمانة لهم من عذابه، إن أراد تعذيبهم، فلو شاء لأهلكهم في البر بحاصب يرسله عليهم فيه، فليس الإهلاك كله في الماء أو بالماء. ولو شاء لألجأهم إلى ركوب البحر ثانية، حتى إذا ركبوا أرسل عليهم ريحًا يقصف الفلك ويكسره، وأغرقهم جزاء لهم بكفرانهم النعمة في التخليص السابق. أي فإذا كنتم تعلمون أن لا أمان لكم من هذا المؤاخذات، فلم تكفرون النعمة وتريدون المعصية وتمنعون الطاعة. أي فلا تفعلوا ذلك، واشكروا النعمة وآثروا الطاعة والعبادة، فإن ذلك خيرًا لكم وأعود عليكم وبالله التوفيق.
ومن نعم الله عز وجل على عباده أنه لما أراد منهم العبادة، وكانوا لا يصلون إلى ما يريده منهم إلا بتوقف، أرسل إليهم رسلًا من جنسهم وجعلهم قائمين عليهم، يعلمونهم ما يجهلون ويأمرون وينهون وينشرون ويقدرون ويعدون على الطاعة ما يرغب فيها، ويتوعدون على المعصية بما يروع عنها، ولم يقتصروا على أن يعرفهم ذلك مرة واحدة، فيعودوا إلى ما كانوا عليه ويصيروا كأن لم يسمعوا ما قيل لهم، ولكنه عز وجل أقام الرسول بينهم ليدربهم على العبادات ويأخذهم بالواجبات إلى أن يموتوا عليها ويألفوها ويتعظموا عن العبادات الجاهلية وينسوها، وربما قيض رسولًا واتبعه غيره إلى أن ختم النبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فأقام ما أقام ستر الأمة جادًا مجتهدًا إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجًا، واستعلى الحق وزهق الباطل، وظهر أمر الله. فلما توفاه الله إلى كرامته خلف القرآن وهو أعظم دلائله وأشرف آياته وبيناته بين ظهراء أمته، مهما يكن من الستر فكان تبعًا للقرآن الجامع لها به ما شرع له في أمته من بعده كالحي القائم بينهم، لا تفوتهم إلا رؤيته، ولا تنقصهم إلا مشاهدته، فكان نعمته على الرسل أن فضلهم وشرفهم واصطفاهم على غيرهم بأن ائتمنهم على وحيه، فأحبهم بشفاء ربه، وجعل منزلتهم من غيرهم كمنزلة ملائكته منهم، ونعمته على المرسل إليهم إن لم يخلهم وأهواءهم، ولكنه أعانهم بمن يسددهم ويرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم لئلا يخلدوا في حقوقه إلى التقصير،