فأداهم الأمر إلى أن صنعوا كتبهم. وأخبر الله تعالى ما وعده، فحفظ فينا كتابه وهو حافظه بفضله إلى أن تقوم الساعة، وسعة رحمته. ثم إنه عز وجل خص هذه الأمة باجتهاد الرأي في التوارث والأحكام، ووضع عنهم الخطأ فيه ما لم يكن منهم نقص في الاجتهاد، ومسامحة أنفسهم فيه، وميل بالهوى إلى وجه من الوجوه المحتملة دون غيره وقصد إلى أن يظهر الرجحان دون ما سواه، فانبسط لسعيهم من علم الدين ما كان منطويًا، وظهر منه ما كان كامنًا مختفيًا وقام بتخليص الأصول وتفريع الفروع قوم يقوم خبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم والبشارة بهم، حيث قال فيما روي عنه:(إن في أمتي قومًا كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء). فانتهوا فيها إلى أقصى حدود الإمكان، وظهرت لهم فيما تكلفوه من الله آثار الكرامة وخلد المدح والثناء عليهم إلى يوم القيامة.
وبلغ قوم سواهم في نصرة الدين والرد على الملحدين مبلغًا لما يبلغه ذو ملة ممن خلا في نصرة دينه، فما بقوا للمخالفين شبهة إلا حلوها، ولا حجة فيما عندهم إلا دفعوها، ولا نبأ لهم إلا هدموه، ولا أصلًا إلا كسروه، فخلص الدين بحمد الله محروسًا بالسيف والقلم، ظاهرًا من الله تعالى على سائر الأديان ظهور العلم. وكل ذلك مما أنعم الله تعالى به على هذه الأمة من الإمداد الذي أمدهم بها، والمعادن التي أجزل حظوظهم بينها، وإن عددنا نعمه لم نحصها فله الحمد دائمًا والشكر واجبًا كما يستحقه.
فصل
فإن قال قائل: أليس كما أنعم الله تعالى على عباده بهذه النعم وبغيرها مما لم يذكروها، فقد ابتلاهم ببلايا، وختم عليهم بالمنايا، وحل بينهم وبين الخطايا، وعرضهم بها لأسوأ القضايا فما الوجه في هذا عندكم. فالجواب:- وبالله التوفيق- إن البلايا ضربان:
ضرب جعله الله تعالى عقوبة لمن أصيبه. فإذا صبر المبتلى عليه وتاب إلى الله من ذنبه، جعله تمحيصًا له وكفارة، وضرب يعوض به من يناله، لما هو خير له مما يبتليه إياه ببلية. وهذان جمعًا للمؤمن.