فأول ذلك أن الله عز وجل لما تعبد عباده فأمرهم ونهاهم ووعدهم وأوعدهم فوض ما تعدهم به إلى إجبارهم، ولم يجبرهم على الطاهرة، جبرا، وهذا بالحقيقة ائتمان.
ثم انه بين ذلك بأحكامه، فحكم بأن من دخل عليه وقت الصوم ولم يعلم ذلك صوم أو نسيان، ومات على ذلك، أو قام إلى الوضوء فلم يستتمه أو فرغ منه، ولم يبلغ المسجد أو مصلاه في بيته، حتى مات، صلاته عليه. وأن المريض إذا أفطر في شهر رمضان ولم يدرك ما بعد الشهر فلا شيء عليه. وأن من حال الحول على ماله ولم يتمكن من أداء الزكاة حتى هلك ماله فلا شيء عليه. وأن من وجد المال إلا أنه مات قبل وقت الوقوف فلا حج عليه. ومن لم يقدر على شيء من العبادات ما كان فليس عليه وهذا كله حكم الأمانة.
فأما حكم الضمان فغير هذا، لأن من استقرض من آخر مالا وقبضه ثم هلك مكانه ولم يكن له مال سواه، فعليه ضمانه. وكذلك لو غضب من الآخر مالا فعجز عن رده، ولم تسقط عنه تبعته. والعبادات أيضا إذا صارت مضمونة بالتفريط، ثم تعتبر فيما بعد ذلك بالإمكان والعجز، فعلمنا أن حكمها في أوائلها إنما كان ما ذكرنا، ليكون سبيلها سبيل الأمانات والله أعلم.
فينبغي لكل من وجبت عليه عبادة بدخول وقتها أو حلول شرطها أن يسارع إليها فيردها أمانة لأهلها، على نفسه مضمونة. فإن استيفاء الأمانة بين الله تعالى وبين نفسه أحسن وأجمل من التقريظ الذي يزيل عنه حسن هذه السمة، ويبدله عنه خلافها، ولم يكن حرجا ولا إثما، ثم على هذا كل أمانة وجبت لله تعالى أو لمسلم، فينبغي أن يجتهد في أدائها واستيفاء هذه التتمة وحسنها. فإذا حمل علما من علم الدين فسئل عنه لم يكتمه، وإذا كان حاكما فيثبت عنده لرجل أو امرأة حق، لم يحبس الحكم به ولم يؤخره. وإن ولي أمور المسلمين سببا لم يضيعهم ولم يغشيهم فيقعد بهم حين الجهاد، ويجاهدهم حين العقود ويؤخر الصلاة لهم عن وقتها، ويستعمل عليهم شرار العمال ويحتجب عنهم ويشد وطأته عليهم، ويبسط يده بأنواع الظلم إليهم. فإن فعل ذلك، فلم ينصح لهم، ولم يؤد أمانة الله وأوليائه ورسله إليهم والقوم إن قبلوا ولايته وألزموا طاعته ثم يخشوه، وقعدوا عما أمرهم به مع تيسير آثار الصلاح فيه بالعلل والمعاذير، فاختلت ولايته ووهن سلطانه، وأشاروا عليه بما يعلمون أن فيه انتشار الأمر، وتفرق الكلام، وقوة العدو، وليسوا