ما يقال له. فإنه إن كلمه وهو زائل عن العقل لم يأمن أن يفرط عليه، فيكون قد جمع بين تضييع النصيحة وبين التعرض للشر.
وينبغي أن يكون الأمر بالمعروف مميزًا يرفق في موضع الرفق، ويعنف في موضع العنف، ويكلم كل طبقة من الناس بما يعلم، أنه أليق بهم وأنجع فيهم. ولا يخاطب أحدًا لفضل من الكلام لا يحتاج إليه فينفره بذلك عن قبول موعظته، ولا يدخل عليه مدخلًا يصير سببًا لرد نصيحته، أن لا يكون سلطانًا فله الأمر والنهي، ولا حاجة إلى استجلاب الطاعة من رعيته بالتآلف، إلا أن يكون السلطان ضعيفًا يعلم أنه يطاع رغبة ولا تدعى له رهبة. فإن كان كذلك على سبيله فيما ذكرنا سبيل أحد العلماء المصلحين، وبالله التوفيق.
وكما لا ينبغي لمن يقوم بهذا الأمر أن يعنف في موضع الرفق، فكذلك ينبغي له أن يرفق في موضع التعنيف، لئلا يستخف قدره ويقضي أمره. وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، غير محابي ولا مداهن يتعرض لواحد ويعفى غير واحد. فإنه بذلك يجعل على نفسه سبيلًا، كما إذا قام بذلك من ليس يصلح. لأنه كما يقال: أدرك نفسه وغير حالك، فكذلك يقال للآخر: ابدأ بجارك وقريبك، وأصلح من حاشيتك. فينبغي أن يكون القائم بهذا الأمر ممن لا يتوجه عليه لأحد حجة. قال الله عز وجل:{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}. فدل ذلك على أن سبيل المرء أن يصلح نفسه أولًا ويقومها، ثم يقبل على إصلاح غيره وتقويمه. قيل لبعضهم: ألا تذكر؟ فقال: ما أنا عن نفسي براض ما يفرغ من ذمتها إلى ذم الناس، أن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمنوه على أنفسهم.
وأيضًا فإن كل واحد من الذي يحابي ويداهن، والذي يتعاطى المنكر بنفسه، مستحق لأن يؤمر بغيره ما هو عليه، ونهى عما هو عليه. فكيف يجوز أن يأمر غيره بشيء أو ينهى عن شيء؟
ذكر أنس رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمر بقوم تقرض شفاههم بالمقاريض، فقال: (من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك الذين