قال عز وجل في قصة الطوفان:{فالتقى الماء على أمر قد قدر}. وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لأن الالتقاء لا يكون إلا من اثنين، فلا ينكر أن يقول:{خلقنا الإنسان من سلالة من طين} ويريد ماءين والله أعلم.
فصل
ثم أن الله تبارك وتعالى كما وصى بالوالدين الإحسان وكرر من حقوقهما ما عسى يعقل الأولاد عنه، كذلك للأحكام بين الوالدين والمولودين على ما يقتضيه الأصل الذي سبق وصفه، فمن ذلك أنه نهى عن انتهار الوالدين وأمر بالتواضع والذلة لهما من الرحمة وقيل في الرحمة: أنها صفة مركبة من الحب والجزع، وهذا من الآدميين، فلا يجوز مثل هذا على الله، فأمر الولد أن يحب والديه، وأن يكون قلبه لهما بحيث لا يحتمل أن يصيبهما أذى أو يمسهما سوء بألم من أدنى مكروه يصل إليهما. فإذا كان من الحب لهما بهذه المنزلة، فذلك هو الرحمة، وهو إذا وجدها في قلبه لهما، لم يكن منه انتهار لهما ولا مفارقة لطاعتهما إلا أن يكونا كافرين، ويأمر الوالد بالكفر، أو يكونا فاسقين، فيدعو الولد إلى الفسق فيحرم عليه أن يطيعهما، لأن الله عز وجل أولى به منهما، وحقه أولى وأعظم من حقهما، وهو يأمره بخلاف ما يأمرانه به، فطاعته أولى من طاعتهما، ومن ذلك أنه أبطل القصاص عن الأبوين إذا قتلا أو أحدهما الولد. ومعنى ذلك أنهما كانا سبب وجود الولد، فإنهما قبلة قضى الله تعالى عن الوالد حقه، لأن القتل لأجله، فيكون بقاؤه بعدما قتل ولده حرًا لكونه سببًا لوجود الولد في الابتداء. وكذلك إذا قتل ولد والده لم يقتله ولده قصاصًا لهذا المعنى بعينه.
ومن ذلك أنه إذا قذف ولده لم يجلد، لأنه كان سببًا لكل فضيلة من فضائل الأحياء نالها الولد، فجعل ترك الجلد عليه لئلا ينادي به، ولا يألم منه قضاء بحق الولد عنه، فيما كان للولد سببًا لوصوله إليه من نعمة الحياء وغيرهما. ومن ذلك أن الولد إذا ملك أبويه عتقًا عليه لأنهما كانا سببًا لوجوده، وكل ما تبع الوجود من الفضائل فلم يسلط عليهما