وفيه وجه آخر وهو أن الأبوين إذا كبرا فقد أشرفا على المفارقة، فينبغي أن يكون الولد في ذلك الوقت أرأف بهما وأشد ولوعًا وكلفًا بهما، وأن يزودهما من بره وشفقته وحسن طاعته ما يقدر عليه. ويتزود من رضاهما عنه ودعائهما له ما يرجى أن يكون سببًا لنجاته في الآخرة، أو لزيادة درجات الثواب في الجنة والله أعلم.
فأما الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أدرك أبويه الكبر أو أحدهما، فلم يغفر له، فإنما أراد به أن من وسع الله تعالى له المهلة من مجاورة أبويه، فكانا معه إلى أن كبرا، ثم لم يكن منه في جميع الأيام ما يقضى عنه حقهما، ووجب له رضاهما، ويحملهما على أن يدعو له بخير فلا غفر الله له. وهذا على الحقيقة عظيم. ومما ينبغي للولد أن يشكر به والديه أن يديم الدعاء لهما بالاستغفار، وسؤال كل خير يسأله الله تعالى لنفسه من عاقبته وصحته وغيرهما. فإن الله عز وجل قد قال:{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغير}.
وحكي عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه قال لأبيه: سأستغفر لك ربي، وأنه لما يبين له أنه عدو لله، كان يستغفر له ويقول: لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء تصديقًا منه بوعده الذي كان وعده بربه بذلك، إن هذا القضاء ما يقدر عليه له، وللإجابة بيد الله تعالى. فإن لم تكن في حكمته أن يجيب، فليس علي من ذلك شيء.
فثبت بهذا أن الاستغفار للوالدين من أعظم ما يقضي به حقوقهما، وكل دعاء يدعو به المرء لنفسه ما يريد به صلاح دين أو دنيا، فهو نظر للاستغفار والله أعلم. ومن جملة حقوق الوالدان لا يرغب الولد عنه وينتسب إلى غيره.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) وفي رواية أخرى: (من رغب عن أبيه فقد كفر). ومعنى هذا أنه فعل ما كان أهل الجاهلية يترجعوا فيه لكفرهم. فإذا قد جاء الإسلام ووقع الحكم بأن لا ينقل النسب ولا يحول، فليس لأحد أن يرغب عن أبيه الذي ولده، فإنه وإن انتسب إلى غيره لم يضر ذلك