والشراب إلى مثل ما يحتاجون إليه، ولا يقدر من الأشياء المعتادة إلا على مثل ما يقدرون عليه، ويعجز عما يعجزون عنه، وجب أن تحكموا بأنه من فعل هذا الذي اختص به مما هو خارج عن قضية العادات عاجز مثلهم، وإنه إذا كان عاجزا عنه، وقد وجد به وظهر على يده حق أنه ليس من صنعه، ولكنه من صنع غيره، ولا جائزا أن يكون ذلك الغير من جنسه أو مثله، أو في القدرة تكاثره إذ لو كان كذلك لاستحال وجوده من غيره كما استحال وجوده منه.
وفي ذلك ما يوجب أن يكون من صنع صانع، لا يفعل إل شيئا بمثل القوة والقدرة التي بهما يصنع الصناع المشاهدون. وأنه كما لم يشبه صنعه صنعهم فكذلك هو غير مشبه إياهم، ولا جائز عليه من معاني النقص ما هو جائز عليهم، فانتظمت حجة هذه إثبات الصانع على من يجهله ولا يعترف به، وإثبات رسالته من عنده، فمن استسلم لحجته وصدقه في جميع قوله، وآمن بجملة دعوته كان إثبات الرسول والمرسل منه معا في مقام واحد، ولم يكن إثبات الرسول، قبل معرفة المرسل، فهذا وجه الإيمان بالله إجابة لدعوة رسوله إليه، وهذا ما أجابه بحجه.
ومن هذا الوجه كان إيمان عامة المستجيبين للأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، ثم قد كان فيهم من تنبه بعد، فرأى وبحث ونظر، فبصره الله تعالى من الدلائل ما شد بها أزره، وعصم دينه، وقوى نفسه. فطلب من هذا العلم ما ينصر به الدين ويجادل به أعداءه، وينتصر به للتدافع عنه.
فأما أهل الإيمان فما أقل من خرج إيمانه عن الطريقة التي ذكرتها إذا كان الذين شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا دعوته، وعاينوا حججه، آمنوا به استبصارا بها، ولم يحتاجوا معها إلى دلالة يستشيرونها بآرائهم من شواهد عقولهم.
فكذلك الذين لم يدركوا عصره ولم يشاهدوه، إذا بلغهم خبره، وخبر المشاهدين له بلاغا- لا يمكن أن يكون كذبا ولا غلطا- صاروا كالمشاهدين في وقوع العلم لهم ضرورة بكل ما بلغهم.
فإذا أذعنوا لدعوته من غير حجة جديدة يبغونها كانت منزلتهم في ذلك منزلة الأولين وكان إيمانهم سالما صحيحا، ثم كذلك كلما بلغ ذلك الخبر أهل عصر بلاغا، فوقع لهم العلم فآمنوا كانوا كالمشاهدين، وكان إيمانهم حجة لا تغير، وكل مؤمن اليوم فأصل إيمانه هذا البلاغ، ثم في المؤمنين من يوسع في النظر، واستكثر من وجوه الحجج لحاجته إليها