وإن قال: حدثت بعد أن لم يكن. قيل له: إن جاز أن يحدث بعد أن لم يكن لا باختياره، فأجوز من ذلك وأحق أن تكون حادثة باختياره. وأيضا فإن وجوده لو اقتضى وجودها لا باختياره لوجب أن تكون قديمة لأنه قديم. ولما جاز له أن يكون موجودا، وما يجب وجوده عن وجوده غير موجود لأن ذلك لو جاز وقتا لجاز أبدا ومنه بطلان أن يكون الباري علة كما قال هذا القائل وبالله التوفيق.
فصل
وإذا ظهر أن العالم صنع صانع حي عالم قادر حكيم، فالحكيم لا يخلق خلقا، ولا بعل فعلا لا لعرض صحيح منه، وهذا هو المعنى الذي نبه الله عز وجل عليه عبادة بقوله تعالى:{أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا}، وبقوله تعالى:{أم خلقوا من غير شيء}. أي لا لشيء أو من غير غرض كان في خلقهم.
وإذا ثبت ذلك، وكان العالم مشتمل على حي عاقل مبين، وعلى أحياء لا تفعل ولا تبين وجماد، لم يجز أن يكون ما يقل مخلوقا لما لا يعقل، لأن العاقل أفضل وأشرف من غير العاقل، لا يجوز أن يكون العاقل الحكيم خلق الأشرف للإدراك والأفضل الأنقص، لأن ما كان مخلوقا لغيره كان المخلوق له هو الغالب عليه إذا كان سببا لوجود ما خلق له.
ولا يجوز أن يكون الأنقص غالبا على الأفضل، ولأن ما لا يعقل إذا لم يعلم معاني نفسه استحال أن يعلم معاني غيره، وإذ لم يعقلها ذهب خلق غيره له هدرا، وكان فعل ذلك مناقضا للحكمة. فثبت أن مالا يعقل مخلوق لمن يعقل، وذلك أن ينتفع بكل شيء منه على الوجه الذي يصلح له، والاعتبار يجمعها كلها، لأنه ما من شيء إلا وفيه الدليل على الفاعل القديم المبدع الحي القادر العالم الحكيم، ثم يكون وراء ذلك في شيء منفعة الأكل وفي آخر منفعة الركوب، وفي آخر منفعة الحمل عليه إلى غير ذلك مما يكثر عده، ثم الذي يعقل مخلوق ليعلم ما يقع العلم به على حسب العلم الواقع له.