وقال عز وجل في آية ثالثة:{وتجعلون رزقكم إنكم تكذبون}. فجاء في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقولون: مطرنا بنو كذا، ومعنى هذا أنهم كانوا يرون النو موجباً للمطر، فكانوا ينسبون المطر إليه، ويعقلون عن خلق الكواكب ورتب أحوالها من الأنوار وغيرها، وأن يزول المطر عند الأنواء، إنما يكون بإرادة الباري سبحانه وتعالى، فإن شاء أن يغير العادة أو يعاقبهم بالجدب، فيحبس المطر عند الإنواء لم يكن له ذلك مانع، ولا كان لما يريده بهم دافع، فذم الله تعالى من قولهم وغايتهم، فقال:{وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.
فالمعنى- والله أعلم- وتجعلون شكر ربكم أنكم تكذبون بمن يرزقكم وتنسبون ما يأتيكم إلى ما هو خلقه، وإنما صلح أن يوضع إسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقاً على هذا المعنى، فقيل:{وتجعلون رزقكم} أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقاً لكم، إنكم تكذبون بالرازق أي تضعون التكذيب مكان الشكر كما قال:{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}.
أي لم يكونوا يصلون، ولكنهم يصفرون ويصفقون مكان الصلاة من المسلمين.
وفي هذا البيان ما أصاب العبد من خير أو شر، فلا ينبغي له أن يراد من قبل الوسائط إلى أخرى العادة بأن تكون أسباباً وجهات لحصول أقضيته وأقداره إلى عبيده، بل ينبغي أن يراه من قبل الله جل ثناؤه، ثم يقابله بما يليق به من شكر أو صبر تعبداً له وتدللاً، وبالله التوفيق.
ويدخل في هذا الباب أن التاجر الكسوب الضارب في الآفاق إذا اجتمع عنده المال، فما ينبغي له أن يقول: إنما أصبت المال بجهدي وجدي، بل ينبغي أن يقول: وفقني الله للكسب فكسبت، ورزقني فأصبت، لأن لو شاء لأقعده عن الكسب، ولو شاء لحرمه ما كان يأمله بالكسب أو قوته بعدما يحصل، إذ ليس كل طالب بجد ول كل واحد يبقى له ما يجيده وهذا عادة كما أن خلافة عادة، فأضافة الموجود إذاً إلى السبب المختلف خرق وجهل، وإضافته إلى السبب الذي لا يخلف وهو فضل الله ورحمته هي التي تحق وتلزم، وقد قال الله عز وجل:{فإذا مس الإنسان ضر دعانا}.