فيقال للإحسان الذي هو الترغيب جزاء بمعنى أنه لم يكن مبتدأ، وإنما وقع في مقابله حين تقدم من المحسن إليه، فكانت صورته صورة الجزاء.
ويقال للإساءة التي هي الترهيب جزاء بمعنى أنها لم تكن مبتدأ، ولكنها وقعت في مقابلة شر يسبق من المساء إليه، فكانت صورتها صورة الجزاء، وكل ما عده هذا القائل فقال فيها الآيات، وروي فيها الأخبار فهو داخل فيما وصفنا، أنه للعصاة وردع وتقويم وترهيب، ومنع لهم عن الأضرار، وللمطيعين حرض وترغيب وبعث على البيان والدوام، فلذلك كان موضعه هذه الدار، وذلك أنها دار العمل والترغيب والترهيب فيما يحسن وبها يليق.
فأما جزاء الانتقام وجزاء التعويض، فلا يكتفيان بدار العمل، لأن الحياة مادامت باقية، والمحسن العدل، يعرض أن ينقلب مسيئا فاسقا، والمسيء الفاسق يعرض أن ينقلب محسنا عادلا، والمؤمن يعرض أن يكفر، والكافر يرض أن يؤمن، فلاحق أن يتأخر جزاء كل منهما إلى أن تنقضي حياته التي هي نهاية لمدة تكليفه، فيكون جزاؤه بحسب ما يختم به عمره، ويلقي به ربه، وهذا جملة الجواب عن السؤال وبالله التوفيق.
ثم التفضيل أن الله عز وجل أن أمر يقبل المرتين فقد جعل لبعضهم منه مخرجا بالجزية ولجماعتهم بالرق إذا جرى عليهم، فلو كان ذلك جزاء الكفر لما سقط بالجزية ولا بالاسترقاق لأن الكفر منهم مع الآخرين قائم ولأن ذلك لو كان انتقاما منهم لكفرهم لأمكن منهم ليقتلوا.
ومعلوم أن الأولين هم الذين وصل إلى قتلهم ويسلم الأكثرون، فلا يبقى وراء هذا إلا إباحة لدمهم، والإباحة نفسها لا انتقام يقع بها حتى يكون معها إراقة الدم وإهلاك النفس، فما كان ذلك مما لا يوصل إليه، وقد يعرض عند القتال ما يمنع عنه في حكم الله تعالى، علمنا أن قتل الكفار ليس إلا ردعا لمن يفضله السيف منهم عن الأضرار، ولذلك قام أخذ الجزية والاسترقاق لما فيها عليهم من الذلة والصغار فقام القتل والله أعلم.
فإن قيل: فالمقتول منهم كيف يرتدع؟ قيل: إنما كان ردعه بإعلامه أنه مقتول على كفره، والتعويض بالسيف، فإن أبي وقاتل فهو القاتل نفسه، والله أعلم. والقول في الحدود كلها على هذا، وذلك إنما روادع بما فيها من إيلام المحدود عليه من الشين والعار،