فهذه الوجوه كلها سوى ما يرجع إلى العبد من فوائدها، حقوق الله تعالى تلزمه وتفترض عليه، لأنه تعالى أنبأه احتاج أن يقوم بأعباء النبوة وينخرد لها ويصير على ما يستقبله فيها، وإن مكله احتاج إلى الزنا حد نفسه بالعدل بين الناس، والأخذ للضعيف من القوي، وإقامة حدود الله تعالى، واستبقاء حقوق الله تعالى ووضعها مواضعها ومجاهدة أعداء الله تعالى إلى غير ذلك، مما يطول على التعديد والإحصاء، وإن كثر ماله أو بسط جاهه، فعليه من كل واحد منهما حق معروف، وجملته أن يواسي من كل واحد منهما غيره مما يحتاج إليه وإن صح بدنه لزمه في الصلاة والصيام والحج والجهاد فرائض الأصحاء، فعلمنا أن كل شيء من هذا لا يخلص التعويض فهو إذا ترغيب وتحريض كما ذكرنا وبالله التوفيق.
ثم المعنى في عامة ما وصفت أن هذه الحياة كلها وقت له، فكان الجزاء واقعا بعد نقض العمل لإحلاله.
والمعهود من الناس كلهم أنهم يوفون العامل أجره، إذا فرغ من عمله، فذلك عند جماعتهم حسن جميل، فكانت معاملة الله تعالى بنحو ما عرفوه واعتادوه. بل كان ذلك أليق بأن يكون له حكما لما ذكرت من أن العدل يفسق، والفاسق قد يعتدل، والمؤمن قد يكفر، والكافر قد يؤمن.
ولا وجه لأن يجمع الجامع في حياته بين العدالة والفسق من أن يثاب على عدالته ويعاقب على فسقه، ولا للجامع في حياته بين الكفر والإيمان أن يعاقب على الكفر وثبات الإيمان، لأن هذه المعاني متدافعة غير متلائمة، أعني أن العدالة والفسق صفتان لا تجيئان معا لأحد، لكن العدالة تنسخ الفسق إن كان تقدمها، والفسق ينسخ العدالة إذا تقدمه، والكفر ينسخ الإيمان ويحيطه، والإيمان بنسخ الكفر ويحيطه.
فإذا كانت هذه الأوصاف مناسخة متنافية، لم يجز لأحد أن يجمع لأحد بين الواجبات التي تجب فيها، فيؤتي ثواب العدالة مدة اعتداله تاما، ويعاقب بالفسق مدة فسقه تاما، ويعذب على كفره مدة ما كفر، ويثاب إيمانه مدة ما آمن، لأن من حكم الله عز وجل وموضوع سنة نبيه، أن من فسق ثم تاب وأصلح حبط فسقه، ومن أصلح وقتا ثم فسق أحبط فسقه من الطاعات التي قدمها دون أصل للإيمان بعدده حتى لا يجب له ثوابها.