وأما أصل الإيمان فأمره على الاختلاف، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الجزاء بعد انقطاع العمل وتقضي مدته، ثبت أن الله عز وجل قد أعد للجزاء دارا سوى دار العمل، وأنه يوردهم إياها واجبا ليجزيهم بأعمالهم، فيثيب المحسن ثوابا يشترك فيه من يثيبه كل ما اشترك منها عن حسن العمل، فيعاقب المسيء عقوبة يشترك فيها من ينيبه كلما اشترك فيها من سوء العمل وبالله التوفيق.
ويقال للمعارض الذي حكيت قوله واجبته عنه: أرأيت العابد الخاشع الناسك الذي لا يعصي الله، ولا يخلو من وجع أو شدة جوع أو عري في الحر والبرد بما يؤذي، ويخفي وهو بصير ولا يفارق عادته، إذا مات على هذه الجملة، فليس إنما مات ولم يستوفي ثواب عمله.
أرأيت الفاسق الخليع المتهتك إذا رضى أيامه في ضروب المعاصي، فلم يدع شهوة إلا قضاها ولا لذة إلا استوفاها وهو في ذلك لا يصيبه غم ولا وجع ولا نيلا ولا يزداد على الأيام إلا غناء وثروة وجاها، ورفعة وهو لا يقلع عما فيه إلا أن مات على هذه الجملة! أليس إنما يثاب غير مجزي بعمله، فما حال هذين الرجلين عندك، أضاع الموت سمعيهما، فهذا خلاف الحكمة، والله الموفق تعالى حكيم له يجزيان، فأين تجربان إلا أن يجيئا مثقلا إلى دار أخرى فيجربانها كما تقول!
وإذ كان هذا هكذا، بأن العباد إذا كانوا متقاربي الحال، فمنهم محسن يلقي في حياته خيرا ومسيء يلقي في حياته شرا، ومحسن ومسيء لا يلقى واحد منهما في حياته ما يليق بحاله. فواجب أن لا يكون الخير الذي يلقاه المحسن ولا الشر الذي يلقاه المسيء جزاء بالحقيقة، وإنما يكون الجزاء ترغيبا وتحريضا وبشرى للمحسن، والشر ترهيبا وإنذارا للمسيء، لأنه لا يجوز أن يكون بعض العمال يجزون وبعض العمال لا يجزون، وإذا لم يجز ذلك صح إنما تفاوت فيه القوم لم يكن جزاء بالحقيقة، وإنما كان الغرض منه شيئا آخر والله أعلم.
فإن قيل: هذه المعاني التي ثبت عليها جوابك كلها معان شرعية، وإنما يعترض عليك بالسؤال الذي مضى، من لا يعترف بالشريعة، فكيف يلزمه ما أمعنت فيه من الجواب.