والذت بذلك ونعمت فقد توفر على الحشر عوضه وبالله التوفيق.
قال قائل: لو كان البعث بعد الموت حقا لما جاز أن يأمر الله العباد أو ينهاهم، ويكلفهم ضروبا من التكليف من لدن آدم إلى زمان عيسى، ولا يطلع أحد على ما هو فاعل بهم، ولا يدري أحد منهم أنه قد أعد للمطيعين دارا مشحونة بالنعمة والكرامة، وهي الجنة، وأعد للعصاة دارا تتأجج نارها مشحونة بالنقمة والعقوبة، ولو كان قد أعد لهم ذلك، واطلع العباد عليه لوجب ذكره في كتب المتقدمين، والأمر بخلاف ذلك، لأن دعاء الأوليين إلى الله جل ثناؤه كنوح وإبراهيم وموسى ما أخبر أحد منهم قومه بان لهم معادا يحاسبون فيه ويجزون بأعمالهم. وإنما كانت مواعيدهم كلها عاجلة كما قال نوح لقومه:{استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
وقال هود أيضا لقومه:{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم}.
فإذا تصفحت التوراة لم تجد فيها للمعاد ذكرا ولا عن الجنة خبرا. وإنما هو وعد الخصب والصحة والظفر على الأعداء وما شبهها على المعصية، وما ذكر أحد قبل عيسى معادا. فكان أول من رمز فقال: أن المسلمين المنحلين من الدنيا المتفرغين لعبادة الرب يرقون إلى ملكوت السموات وأن الأئمة والظلمة يصيرون إلى أغوار ومغور مظلمة، فيلقون فيها جزاء أعمالهم السيئة، ثم جاء بعده نبيكم فلم ينقع بذكر الأرواح حتى أخبر أن لابد أن يعاد بهما، ووصف دارين: أحدهما مشتملة على الملاهي والملاذ، فذكر أنها للثواب.
والأخرى مشحونة بألوان المكاره والآلام فأخبر أنها للعقاب وهذا يدل على أن الأوليين لم ينتهوا في طلب الرئاسة، فما ينتبه به الآخرون، فاقتصروا على المواعيد العاجلة اتكالا على أنه إن اتفق لمن يطيعهم خير، قالوا: هذا لطاعتك، وإن أصابه شر، قالوا: هذا لعصيانك وإن جرى الأمر بخلاف هذا فيكون للطبع، أو يخلف عنه ما وعده، قالوا: هذا الشيء أحدثه أو سريرة رديئة بين الله تعالى وبينه أتاه لوجده كان يفعل كذا،