سقراط أن الذين يمضون إلى الآخرة، وقد أفنوا أعمارهم بالطهارة وسبيل القصد، فإن الملك يقودهم إلى الأرض مشرقة عجيبة، وما تنبت فيها من الأنوار والأشجار بخلاف هذه، إذا كانت التربة والأحجار خلاف لتلك الأحجار، ملس متسقة، حسنة الألوان كأنصاف اليواقيت والزبرجد، وليس فيها بأكل ولا فساد، ولا في تربتها عفونة، وجميع ما تم من الحيوان ومن النبات بخلاف هذا كله.
وتلك الأرض مزينة بالذهب والفضة، وليس لأولئك مرض، وحواسهم بخلاف حواسنا، وأذهانهم بخلاف أذهاننا ومفهومنا، وثم لهم ملائكة يكتبون، ووحي وآثار سيئة ومعارضات عجيبة، وأن الذين عظمت ذنوبهم وجناياتهم، ونزلوا واجبات الشريعة فإنهم يحملون إلى نهر يلتهب بنار عظيمة، ويغلي بماء وطين، فيكون فيها أبدا، لا يخرجون عنها، وأما الذين برزوا في حسن السيرة وأنهم يصيرون إلى فوق إلى السكن التقي فيسكنونه، ومن كان من هؤلاء قد آثر الحكمة ويبقى بها نقيا بالغا، فإنهم يعيشون بالأبدان، ويصيرون إلى مساكن لا تسهل الدلالة عليها. قال: فقد ينبغي لما قلت يجتهد الجهد كله حتى ينال في سيرتنا الفضيلة وللفوز في الذكاء والفهم.
وهو الذي قاله سقراط من أن من آثر الحكمة ويبقى بها ويعيش في الآخرة بلا بدن، يدل على أن عامة ما قدمه في غير هذه الطبقة من خير أو شر، فإنما أراد به أن ينال أبدانهم، فإنهم لو كانوا عنوة بلا أبدان لم يكن بينهم وبين المؤثرين للحكمة فرق.
وهذا هو الذي أنكره المعترض الذي حكينا اعتراضه وقدحه، ورغم أن المسيح أول من رزم بإعادة الأرواح، ولم يرض الذي جاء بعده- يعني المصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم- بذلك حين قال:(إن الإيمان يعلو) فيقال له: إن كان الأمر كما قلت، فمن وأين قال سقراط ما حكيناه منه، وهو على ما يقال: كأن قبل موسى عليه السلام بسنين كثيرة، وإن أيامه كانت قريبة من عصر إبراهيم عليه السلام، وهل يمكن أن يكون ما قال استنباطا واستخراجا له بعقله، فإن كان ذلك يمكن إدراكه بالعقول.
فما أحرى بالذي جاءوا به عن الأنبياء صلوات الله عليهم التصديق والتنزيه من أن