إن قال قائل: ما أنكرتم أن أهل النار لا يبقون في النار معذبين أبدا، لأن الله عز وجل عدل في حكمه، وليس من العدل تعذيب قوم أنبوا نوبا متناهية بعذاب غير متناه. وإذا لم يجز ذلك، فليس إلا أن يبقوا فيها قدر ما يكون جزاء لهم بأعمالهم، ثم يكونون فيها غير معذبين ولا متألمين. وكذلك أهل الجنة يثابون بأعمالهم، ثم يؤول أمر الفريقين في السكون الدائم.
فالجواب: أن مقدار الذنب لا يعرف بالمدة لأنه لو كان كذلك لوجب أن تكون الذنوب كلها أكبر من الكفر، لأنه يقع بالخطرة تسكن النفس إليها، واللحظة واللفظة، ولا ذنب أقل اقتضاء للمدة منه.
وفي ثبوت أن لا ذنب أعظم من الكفر، ما أبان أن الذنوب لا تقدر بالمدة، وأيضا فلو كانت أقدار الذنوب تعرف بالمدد لم يجز أن يكون لذنب ساعة إلا عقوبة ساعة، ولما جزا أن يعاقب الكافر على كفره يوما، أكثر من يوم. ولما جاز أن يزيد مقام الكافر الذي لم يكن في يوم الكفر يوما، ثم هلك في النار على قدر يوم من أيام الدنيا. فعلمنا أن الذنوب لا تقدر بالمدد، وإما تقدر بواقعها من سخط الله تعالى جده.
ألا ترى أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بالأجنبية، والقتل في الشهر الحرام أغلظ منه في غيره، وضرب الوالد وشتمه أعظم من ضرب الأجنبي وشتمه، وزنا المحصن أغلظ من زنا غير المحصن. ومدة الأغلظ وغير الأغلظ في هذه الذنوب متفقة.
وإذا جاز أن يكون هذا هكذا في أحكام الدنيا جاز في أحكام الآخرة مثله. وهو أن لا ينظر إلى مدة الذنب، وإنما ينظر إلى موقعه من هتك الحرمة، وإذا نظر إلى ذلك لم يقدر قدر الكفر، لأن حرمة الله تعالى التي تهتك به، وليس لجلال الله وعظمته مدد تحاط به، ولا لحقوقه على العبد في الوجود قدر يشار إليه، ولا النعمة التي بذاتها عبادة في معاني الإحسان قدر يعبر عنه، فكذلك حرمته لا قدر لها في معنى الإشارة يعرف ولا حد لها يوصف. فجزاؤه إذا عذاب لا يقدر قدره ولا يمكن حده.
فمن هذا الوجه إستحق الكفار التخليد في النار، وإن كانت ذنوبهم في الزمان